التصنيفات
مقالات الضيوف

نحن في عالم افتراضي

ما هي حقيقتي بالفعل؟
هل كنت لتعلمها إلا بأن أختار أي الحقيقتين أعرضها لك؟

يعرف المقربون مني عادة عني أنا مشهور بها وسط كل أصدقائي، وهو أني أعشق تجمعات الأصدقاء، لا يمكن أن أفوت منها واحدًا أبدًا، أشعر في حضرة أصدقائي أني على طبيعتي تمامًا، ولا أكف عن الحديث والثرثرة، ولكن القليلين منهم من يعرفون عني هذه الخصلة: أحتفظ دائمًا بآرائي لنفسي! وكثيرًا ما يتكلم الجالسون أمامي ولو كانوا من أقرب أصدقائي في أمر ما أكون قد قتلته بحثًا منذ عدة أيام فقط وأعرف عنه ما يكفي لملء عدة ساعات بالحديث ولكني أحتفظ بآرائي لنفسي، ليس ذلك عن كسل ولكني أحب أن أستمع أكثر مما أتكلم.

وأذكر في مرة أنه وفي أثناء حديث أصدقائي عن رواية (الحرب والسلم)، تحفة تولستوي الخالدة التي كانت على رأي عم الأدب الإنجليزي (إدوارد جارنت) هي إلياذة العصر الحديث، كانوا يتكلمون عن فروقات معينة في الترجمات العربية، لم أشأ أن أخبرهم عن كم الفروقات الهائل الذي وجدته بين ترجمتي (كونستانس غارنيت) و(إلمر مود) الإنجليزية للرواية، الأمر الذي جعلني أرفع القبعة للمترجم العربي ولجمال اللغة العربية ككل، والتي يمكنها أن تحتوي بأسلوبها تعقيدات إنشائية كتبت بأي لغة أخرى.

أيها القارئ الكريم.. في الحقيقة ما يعرفه أصدقاؤه عني أني لا أكاد أظهر في أي تجمع لأصدقائي المقربين فضلًا عن غيرهم! في الحقيقة يعرفون عني أيضًا أني لا أحتفظ بآرائي لنفسي أبدًا. ولو أحببنا أن نشرح الأمر أكثر لصارحتكم بأني في الحقيقة أذكر آرائي المتعجلة والمتسرعة دائمًا لأصدقائي، بل وأحيانًا ما أفكر في الأمر أثناء قولي له بالفعل، وكثيرًا ما أبدأ الحديث ب: هذا الأمر له ثلاثة أسباب، ولا توجدي عندي أي فكرة عن هذه الأسباب الثلاثة باعتبار أنها ستأتي أثناء الكلام، ويعرف أصدقائي ذلك بالفعل وكلما بدأت ب هذا الأمر له ثلاثة أسباب يضجون بالضحك لأنهم يعرفون أني سأقوم بالتأليف حالًا لجمع أي ثلاثة أسباب من الشارع فقط لأني أحب الرقم ثلاثة.

في الحقيقة أيضًا فأنا أتكلم أكثر بكثير مما أستمع، ومعظم آرائي وليدة الحدس والفلسفة الخاصة ولا أذكر أني قتلت أي موضوع بحثًا أصلًا في حياتي. ولو حدث وفعلت فسأحرص على أن يعرف العالم أكمل بذلك، وسأكتبه في كتاب بعنوان: (الموضوع الذي نجحت في قتله بحثًا بالفعل، باركوا لأخيكم أبو جبل).

وبخصوص رواية الحرب والسلم فأنا لا أعرف عنها إلا اسمها، لم ألقِ نظرة على غلافها من قبل حتى، وعم الأدب الإنجليزي (إدوارد جارنت) كان موجودًا في مقالة هي أول نتيجة في جوجل لما بحثت عن الرواية الآن، وأنا من سماه بعم الأدب الإنجليزي لأني شعرت أنه شخص مهم، ولا أملك أدنى فكرة من هذا الإنسان. وعرفت اسمي (كونستانس غارنيت) و(إلمر مود) في صفحة ويكيبديا عن الرواية، الصفحة التي لم أقرأ فيها إلا قسم الترجمة.

أي الحقيقتين هي الصواب؟
الجزء الأول أم الثاني؟
ما هي حقيقتي بالفعل؟
هل كنت لتعلمها إلا بأن أختار أي الحقيقتين أعرضها لك؟
هل هذا كان ليجعل منها حقيقة فعلًا؟
هل يمكنك أن تثق في الصورة التي يصنعها إنسان لنفسه إن كنت تعلم أنها من صنعه بالكامل؟ هل يمكن أن تقول عن إنسان أنه أمين أو ورع أو تقي أو مثقف أو عالم أو ذكي أو ظريف فقط لأنه اختار أن يقول لك هو هذا؟!

إنسان لا تعرف شيئًا عنه إلا أنك تتابعه على فيسبوك، لا تعرف حقيقية تعاملاته في الحياة اليومية، أو مدى ورعه الحقيقي من الله، أو مدى صدق لسانه ونظافة يده، فقط ما يكتبه، وبينك وبينه آلاف الأميال ولوحتي كيبورد وعملاق عظيم اسمه جوجل وكل الادعاءات والتجملات الممكنة.

ثم و في عالم كهذا تجد الناس مستعدون لتصديق أي شيء! تجد فتاة وقعت في حب شاب عرفته من الانترنت، أو شاب يقدس عالمًا عرفه من الفيسبوك، أو إنفلونسر ينجح في استدراج فتيات في محادثات سرية، أو سرقة أموال أناس وثقوا فيه أنه يجمع التبرعات لأن مواعظه التي ينقلها عن السلف في صفحته رسمت صورة مغايرة تمامًا لحقيقته!

بالله عليكم نحن في عالم افتراضي، لا توجد حقائق أو أحكام حقيقية عن أي شخص هنا!

لا نحتاج إلى المزيد من سوء الظن في التعامل أو التخوين أو افتراض الكذب والادعاء في كل من يحدثك، فقط نحتاج إلى قاعدة يسيرة جدًا تقول: كل إنسان يظهر على الانترنت بالصورة التي يحب أن يظهر بها، سواء كانت حقيقته أم لا.

المصدر