التصنيفات
المدونة

لعنة “الممكن”

لماذا يعاني الإنسان المعاصر أكثر من الإنسان في العصور الماضية؟

لماذا يعاني الإنسان المعاصر أكثر من الإنسان في العصور الماضية؟
ولماذا ارتفعت معدلات الاكتئاب أكثر من أي وقت مضى؟
في رأيي أن أحد أهم الأسباب هو لعنة “الممكن”.

في زمن سابق، كان العجز أحد عوامل الراحة، فمثلا من خُلِقت بأعين بنية داكنة، لم يكن عليها إلا قبول ذلك كأمر واقع، ولم يكن على الآخرين إلا قبول ذلك كأمر ثابت، لأن الشخص كان عاجزا تماما عن تغييره..

ولكن بظهور العدسات الملونة الزائفة، استطاع صاحب العيون البنية أن يلون أعينه بلون جديد كل يوم.. تكلفة إضافية، مجهود إضافي بسيط، مجهود عقلي بسيط كان إنسان العصر الماضي في غنى عن حتى التفكير فيه..

وعلى غرار العدسات، تنافس الإنسان المعاصر وتفنن في تحدي كل ما هو طبيعي وكل ما كان يعتبر في زمن سابق “أمر واقع” عاجز الإنسان عن تغييره..

فكل شيء في الجسد أصبح يمكن تغييره وتعديله وتحسينه، حتى نوع الجنس، فالذكر يمكنه أن يتحول لأنثى والأنثى يمكنها أن تتحول لنصف ذكر ونصف أنثى لو أرادت وهكذا..

دوامة من الممكنات ضاع بسببها ملايين الناس الذين خلقوا احتياجات غير حقيقية وأحلام غير ضرورية بسبب وجود “الممكن”.

واخترع الإنسان المعاصر قطع غيار آدمية، فستجد قطع بلاستيكية تشبه أصابع القدمين تباع كمنتج، رموش وأظافر صناعية ثابتة، أسنان بيضاء بياض غير طبيعي ولكنها ثابتة ويبدو شكلها نموذجيا.. قطع تركب تحت الملابس لتخلق منحنيات وهمية… إلخ..

كلها اختراعات حداثية تنطق برسالة واحدة، أن “الطبيعي غير جيد بما يكفي وأن النقص غير مقبول، وأن المزيف والصناعي سيغزوان الواقع” ولكن للأسف، الصناعي مُكلِف نفسيا قبل أن يكون ماديا، فمن منا بلا نقص؟

وهكذا أُضيف على الناس عبء “إمكانية التغيير” في مقابل “راحة العجز” في الماضي..

فهذا العصر يوهمك أن الإنسان سيد مصيره وأنه المتحكم لأنه ببساطة يمكنه تغيير “كل شيء”، وإن لم يرد التغيير فذلك مجرد اختيار.

شبح المثالية الذي يحوم حول كل فرد منا.

وعلى صعيد أشمل، فالتكنولوجيا أتاحت ومكنّت الناس من تحقيق ما كان يعتبر في وقت مضى شيء مستحيل.. إمكانية أضافت أعباء وخلقت مشكلات لم تكن لتظهر لولا ظهور تسهيلات التكنولوجيا. فمثلا الرسائل لم تعد تحتاج لورق ولا بريد لتصل، فأصبحت تصل لحظيا، وأصبحت تنتظر الرد لحظيا، وتحبط إن لم يحدث ذلك. مع أن في وقت مضى كان الصبر والانتظار والتماس الأعذار شيئا طبيعيا لأن لحظية التواصل كانت من المستحيلات..

إحباطات سريعة صغيرة تافهة مستمرة يتعرض بها الناس بسبب السهولة والإمكانية!

وعلى نفس المنوال، فالعلاقات العاطفية لم تعد تحتاج الأجساد ولا حتى الواقع في ظل وجود علاقات افتراضية سهلة بها كثير من الحميمية والمشاعر وصفر مسئوليات ، مما أدى إلى نفور الناس من العلاقات الحقيقية في مقابل متعة العلاقات المزيفة..

حتى الإشباع الجنسي لم يعد يحتاج طرف آخر في ظل وجود شاشة تعرض وتستبدل البشر، حتى هجر الناس أزواجهم وفضلوا السهولة المزيفة على الواقع الحقيقي لأنه أصعب وأقل تزيينا.

والشهرة لم تعد تحتاج لموهبة أو قيمة مقدمة ولا تحتاج لمنافسة، في ظل وجود مواقع تتيح للجميع نفس مساحات العرض بغض النظر عن محتواهم.

والثروة لم تعد تحتاج لجهد بالضرورة، بقدر التنازل عن بعض القيم، فبالتعري والسخرية والهرج تستطيع جني كثير من الأموال..

كل هذه الممكنات السهلة جدا غيرت من عقولنا، من توقعاتنا، كلها أصبحت تستعبدنا في مساحات افتراضية صناعية سهلة موازية لا تمت للواقع الصعب المُجهِد بصِلة.

ممكنات أصابت المجتهدين بشك في جدوى مساعيهم وجهدهم، وعلت من شأن التافهين..

مقارنة مستمرة تواجه الإنسان المعاصر، صراع بين قيمه وقيمته والعائد المادي السريع والمتع اللحظية السريعة الممكنة.

مقارنات رسخت في عقولنا أفضلية “الممكن السريع السهل” في مقابل “الطبيعي البطئ الصعب”..

الممكن في مقابل الثابت..

ولذلك فكان كل نصيبنا إحباط مستمر.. في ظل ممكنات تتزايد، وغياب العجز الذي كان يعتبره البعض عذر شرعي في وقت سابق..

هذه التسهيلات سرقت الناس من احتياجاتها الطبيعية الهامة، وألقت لها فتات التجارب والتواصل والعلاقات تحت مسمى الممكن السهل.

ولذلك يمر اليوم ولا يبقى في جعبة الشخص إلا فراغ وخواء، رغم آلاف الكلمات من التواصل، ورغم الكم الرهيب من المجهود الذهني والبدني..

وهكذا هزم الإنسان نفسه، بكثرة الممكنات.. فلم يعد يستطيع التمييز بين ما يجب قبوله وما يجب تغييره. ما يجب الاستسلام له والرضا به وما يجب تبديله..

وانعكس ذلك على علاقة الفرد بنفسه، فأصبح يرى نفسه ضئيلا في مقابل كل ممكنات التحسين، وانعكس ذلك على علاقته بالآخرين، لأن كل شيء حوله أصبح ممكنا وسريعا، فلم نعد نتحمل بذل الجهد في شيء، ولم نعد نصبر على شيء أو شخص غير مثالي، ولم نعد نعرف للرضا طريق لأن الشك والحيرة والمقارنة يستولون على حياتنا.

هذا الإنسان دون شك يحارب نفسه، فهو يتسابق ليخرج باختراعات تسهل الحياة، لتكون هذه التسهيلات هي الفخ الأصعب من غيابها..

ولذلك فإدراك تحديات الواقع من أهم وسائل الوقاية والمقاومة..

فذكر نفسك، أنك رغم كل الممكن كامل بنقصانك، وأن العادي نعمة كبيرة،،وأنه ليس كل ممكنا ضروريا ولا مفيدا، وأن تحسين ما دون الداخل مجرد وهم ، لأنه لا ماء لمن يلهث وراء السراب..

المصدر