التصنيفات
مقالات الضيوف

لحظة مُحبِطة ومُخيِّبة للآمال

و هذا هو ما يفعلونه دائما

هل تتذكَّرني؟
كتبت لك هنا منذ أسابيع بعد أن فاز ميسي بالكوبا.
بالطبع لم أكن أعلم أنني سأكتب هنا مرة أخرى بعد فترة قصيرة في مناسبة كهذه، مناسبة لم أكن أتخيَّل أنها ستأتي أبدا،
وعندما أتت، لم تكن كما تخيَّلتها أبدا.

حقيقة، لا أعلم لماذا أكتب لك أصلا.
لم أكن أتخيَّل أنني سأملك ما أقوله في لحظة كتلك.
ما حدث لي هو ما حدث لك ذاته؛ في البداية لم أستوعب، وبعد جولة سريعة عبر حساباتي على منصات التواصل أدركت أنني وحيد تماما، وغريب تماما.

اللحظة التي تخيَّلت أنها ستجمع مشجعي كرة القدم، أو مشجعي برشلونة على الأقل، كانت مُحبِطة ومُخيِّبة للآمال إلى حدٍّ لا يُصدَّق.

مفاجأة؛ العالم لم يتوقَّف.

لم أجد لحظة الصمت التي توقَّعتها.
عناوين الصحف لم تتحدَّث عن “كارثة” أو “مصيبة”،
والصدمة لم تستغرق أكثر من بضع دقائق،
وبعد صدور البيان بفترة وجيزة كان أكثر الناس على فيسبوك وتويتر ينشرون الصور الضاحكة والتعليقات الساخرة؛ أغويرو يطالب بالرحيل لأن ميسي قد رحل، والكلاسيكو القادم سيكون عنوانه التحدي بين فينشيوس ودمبيليه، وغوارديولا يسأل خلدون المبارك إن كان لا يزال محتفظا بإيصال شراء غريليش بعد أن غيَّر رأيه.

كان هذا المشهد من أغرب ما رأيت في حياتي؛ وكأن الناس تحوَّلوا إلى خوارزميات ذكية بدورهم، لا يعبأون بضخامة الحدث ولا حتى يمنحون عقولهم فرصة لاستيعابه ومعالجته عاطفيا.
لا ينصدمون
ولا تنعقد ألسنتهم،
ولكنهم، في حركة آلية ميكانيكية تماما، يبحثون عما سيجلب لهم أكبر قدر ممكن من الانتباه والتفاعل، مثلما يفعلون دائما.

هذا هو المحبط في الأمر؛ أن هذا هو ما يفعلونه دائما،
وكأن الحدث عادي.

هذه المرة تفوَّق الإنترنت على نفسه وأثبت ألا شيء سيوقف سيل “الميمز”.
كلها مزحات مُكرَّرة قيلت ألف مرة في مواقف مختلفة بالصيغة ذاتها ولكن لا أحد يعبأ.
الإنترنت عوَّدني أن ردود الأفعال على أي مصيبة غالبا ما تفوق المصيبة سوءا، ولكنني، كأي ساذج يمر بلحظة صدمة،
كنت آمل في استثناء.

في الواقع، حتى الخوارزميات تملك ما تُبرِّر به موقفها؛ فهي، في النهاية، بلا عقل أو إرادة، وتخدم رغبات صاحبها أيًّا كانت نيَّاته وأهدافه،
ولكن ما مُبرِّرنا؟
ما المُثير والرائع في أن نحرم أنفسنا من التطور العاطفي الطبيعي في موقف كهذا؟
وسط هذه التساؤلات، أدركت أنني أكثر سذاجة حتى مما توقَّعت؛ سيل الميمز لا يتوقَّف أبدا، حتى لو كانت القضية هي الاحتباس الحراري، أو الانتخابات الأميركية، أو سد النهضة، أو واقعة اغتصاب، وإذا كان الناس على الإنترنت لا يتوقَّفون عن المزاح بشأن قضايا أكثر خطورة بما لا يُقاس، فلماذا سيتوقَّفون الآن؟

2
إنكار، ثم غضب، ثم مساومة، ثم اكتئاب، ثم تقبُّل؛ هذه هي مراحل نموذج إليزابيث كوبلر روس للتعامل مع الصدمات العاطفية.

ربما كانت هي الشيء الوحيد الذي يُفسِّر نوبات الضحك الهيستيرية التي عمَّت الإنترنت بعد صدور البيان.
ربما كانت هذه هي طريقتنا في التعامل مع صدمة لا يمكن استيعابها؛ إنكار استثنائيتها ومعاملتها كأي حدث عادي نتجاوزه بالمزاح.
ربما كان كل هذا طبيعيا ومتوقَّعا بطريقة ما.

هل هي صدمة؟
قطعا، ولكن الإشارات كانت حولنا في كل مكان.

الحديث عن رواتب لاعبي برشلونة المُتضخِّمة ووصولها إلى رقم قياسي في تاريخ الأندية كان مستمرا منذ سنوات، ورغم ذلك، أتت الصفقات واحدة تلو الأخرى بمباركة الجماهير لتزيد الأمور سوءا على سوء.

لابورتا كان يملك ورقة واحدة أثبتت أنها رابحة في كل المواعيد السابقة؛ شعبية برشلونة وليونيل وأثرهما الضخم على عوائد الليغا وعلامتها التجارية، وبالتالي القدرة على قلب الأمور لصالح النادي في أي مفاوضات قانونية أو نزاعات على حقوق البث في السابق.
لو فكَّرت في الأمر، فربما تُدرِك أن تصرُّف لابورتا كان مفهوما إلى حدٍّ ما. هذه الورقة ناجعة للغاية ولم تفشل في أي واقعة مشابهة سابقة.
المشكلة الوحيدة أنه لم يكن هناك أية واقعة سابقة مشابهة لهذه.

هذه المرة كانت أندية الليغا قد اتفقت على قبول قرض “CVC” الذي سيُنقذها من الإفلاس والتسييل، ووافقت في غياب برشلونة وريال مدريد اللذين رفضا حضور الاجتماع وامتنعا عن التصويت.
غالبا لأن الثنائي كان ينوي لعب الورقة الرابحة ذاتها عند مرحلة ما، ولكن هذه المرة لم يكن الأمر مُتعلِّقا بمدى الجذب التسويقي والإعلامي الذي سيُحقِّقه ليونيل ميسي لليغا عموما، بل بغريزة البقاء لدى فقراء الليغا.

ما حدث يجب ألا يكون مفاجأة، ولكنه أصبح كذلك.

كل الحسابات المنطقية كانت تؤدي إلى هذه النهاية،
وربما أسوأ، ولكنَّ أحدا لم يجرؤ على توقُّعها، وفي الحقيقة، لا أحد يستطيع لومهم؛ فلا أحد يتوقَّع ألا تتدفَّق المياه عندما يفتح الصنبور، ولا أحد يتوقَّع ألا تُضاء الغرفة عندما تضغط الزر، وإن حدث ذلك، فسيُصيبك الشلل للحظات قبل أن تُدرِك مكمن الخطأ،
وفي تلك اللحظات ستستمر في فتح الصنبور وإغلاقه عدة مرات كالأبله على أمل أن يأتي الفعل نفسه بنتائج مختلفة.

ربما هذا هو ما كان الإنترنت يفعله عندما أغرق نفسه بالمزاح الثقيل، لحظات بعد إصدار البيان.
ميسي كان من المُسلَّمات، هذا هو مكمن عظمته ولعنته في الوقت ذاته؛ ليس فقط لأنه كان قادرا على تغيير الأوضاع وقلب المعادلات لدرجة غير مسبوقة في اللعبة، وليس فقط لأنه كان قادرا على فعل ذلك لخمسة عشر عاما تقريبا، ولكن أيضا لأنه أشعرنا بتلقائية الأمر وعفويته.

أشعرنا بأن كل هذا كان طبيعيا، أشعرنا بأن كل هذا كان حقا مُكتسَبا استحققناه لأننا رائعون ومميزون ومحظوظون، فصِرنا نُحبَط عندما نفقده أكثر مما نسعد بالحصول عليه.
كانت هذه هي لحظة الإنكار.

بعدها أتت لحظة الغضب؛ تلك التي تلعن فيها شركة الكهرباء والمياه بعد أن أدركت أنك لن تتمكَّن حتى من غسل وجهك قبل النزول لعملك أو دراستك.
لا ليغا وخافيير تيباس (رئيس رابطة الدوري الإسباني) هم مَن لعبوا دور شركة الكهرباء في هذا الفيلم، ولكن رغما عنهم، وفقط لأنهم كانوا أسهل هدف لتوجيه الغضب ناحيته.

3
في يوليو/تموز الماضي، صرَّح تيباس لراديو ماركا بأنه لن يتجاهل القانون ويستثني برشلونة لأجل ليونيل ميسي، وأن القوانين وُجِدت لتحكم الجميع، وهو موقف لا يمكن لومه عليه.

بالطبع تيباس أعلن من قبل أنه مشجع مُخلِص لريال مدريد، وبالطبع صراعات العاصمة التاريخية مع الإقليم لا تخفى على أحد في إسبانيا، ولكن تفسير الأمر بنظرية المؤامرة يتجاهل الحقيقة، كل الحقيقة.

هذه اتفاقية خضعت لتصويت كل الأندية، وطبقا للابورتا نفسه، فإن هذه الأندية كانت هي مَن طالَبَ برشلونة بالالتزام بالقوانين الحالية للعب المالي العادل، ووقفت في صف تيباس لتمنع أي استثناءات لأجل ليونيل. هذه لحظة شلل أخرى مرَّ بها ريال مدريد وبرشلونة مع اتفاقية “CVC”، ببساطة لأنهم أدركوا أنهم، ربما للمرة الأولى في التاريخ، لن يتمكَّنوا من لي ذراع باقي الأندية للحصول على الاستثناءات المُعتادة،
وأن الأمر قد حُسم بالفعل.

لعل هذا هو ما يُفسِّر إصرار لابورتا الأبله طيلة الأسابيع الماضية على فتح الصنبور وإغلاقه مرارا في انتظار نتيجة مختلفة.

التعاقد مع لاعبين جدد واستمرار المفاوضات مع ميسي كانت أمورا ضرورية بالطبع، ولكنها كانت بلا معنى إن لم تتمكَّن من حل المشكلة الرئيسية وإزاحة تركة بارتوميو عن كاهل النادي.

طبقا لسِد لو، الصحفي الإنجليزي المتخصِّص في الكرة الإسبانية، فإن قوانين اللعب المالي العادل للموسم القادم تقضي بألا يُنفق أي نادٍ أكثر من 70% من أرباحه على رواتب لاعبيه في كل الرياضات.

برشلونة كان يقف عند 110% بعجز يبلغ 40%، وفي غياب ميسي ينخفض العجز إلى 25%.
هذا يعني أن لابورتا كان يجب أن يقنع كل لاعبي الفريق بتخفيض رواتبهم للنصف تقريبا، أو أغلبهم على الأقل، وهو ما فشل فيه فشلا ذريعا، ببساطة لأنها مهمة مستحيلة أن تقنع قائمة لاعبين مُسنين بالتنازل عن نصف قيمة آخر عقد في مسيرة كلٍّ منهم،
العقد الأكبر والمرجَّح أنهم لن يحصلوا عليه مجددا.

هذا يعني، طبقا للو، أن ميسي لم يكن ليستطيع البقاء مع برشلونة حتى لو لعب مجانا؛
أولا لأن قانون العمل الإسباني يمنع العقود المجانية،
وثانيا، لأنه حتى لو كان يسمح بها، وحتى لو قَبِل ميسي باللعب بلا مقابل، فإن برشلونة لم يكن ليتمكَّن من تسجيله على أية حال.

من فضلك قِف للحظة وحاول أن تستوعب أن هذا هو مدى بشاعة هذه القصة؛ برشلونة كان يملك أفضل لاعب في العالم وربما التاريخ، وهي أفضلية بديهية كانت أندية أخرى على استعداد لدفع مئات الملايين للحصول عليها، ولكنه، بطريقة ما، وصل إلى اللحظة التي لا يستطيع فيها إشراكه حتى لو كان يلعب بلا مقابل.

هذه قد تكون الإجابة عن السؤال الذي حيَّر البشرية كلها منذ فجر التاريخ؛ ماذا كنت لأفعل لو امتلكت المصباح السحري؟
الإجابة مُحبِطة طبعا وغير متوقَّعة،
لأنك لو كنت في مثل جحود نادي برشلونة لكرة القدم،
فغالبا كنت ستطلب مصباحا آخر،
أو كنت ستتذمَّر لأنّك مضطر لفرك المصباح كلما أردت شيئا،
أو لأنك مضطر للتصريح بأمانيك بدلا من أن يقرأ الجني أفكارك،
المهم أنك كنت ستُفكِّر في أي شيء تُفسد به الأمر برمَّته.

نحن غير مؤهلين للتعامل مع هذه الدرجة من الإشباع والرضا، بل مفطورون على أن ننقضها لنبدأ البحث عنها مجددا.

نقضي أعواما في بناء ما نعتقد أنه الكمال،
ثم نهدمه بأيدينا لأننا نكتشف أنه ليس الإجابة؛ لأننا نكتشف أن الوصول إلى الكمال لن يجلب راحة البال والطمأنينة التي نبحث عنها، بل المزيد من العمل والخوف والقلق للحفاظ عليه.

الكمال الذي نبحث عنه، على عكس المتوقَّع، مُتطلب للغاية، ومتعب للغاية، ولا شيء أصعب من الوصول إليه سوى محاولة الاحتفاظ به.

4
هذه هي اللحظة التي أخبرك فيها بسرٍّ لم أُصرِّح به لأحد؛ هناك جزء مني يشعر بالراحة لأن هذا هو ما آلت إليه الأمور.

تخيَّل لو لم ينجح بوتشيتينو في إقناع إدارة باريس بضم فينالدوم، وهو اللاعب الذي لا يبدو جذابا لهم بأي معيار ويمتلكون أكثر من بديل له، وتخيَّل لو كان لابورتا قد نجح في ضم كريستيان روميرو مدافع أتالانتا المنشود، وتخيَّل لو كان قد تمكَّن من الضغط على أندية الليغا كالمعتاد، وإجبارهم على استثناء برشلونة من القانون، ومن ثم نجح في تسجيل ليونيل ميسي.
فقط تخيَّل لو كان كل هذا قد حدث، وهو بالفعل كان قاب قوسين أو أدنى من الحدوث.
حل سحري، أليس كذلك؟
هذه هي مشكلته بالضبط؛ أنه حل سحري سيُصلح كل شيء،
ولكن به ثغرة واحدة بسيطة؛ أنه لن يُعاقِب المسؤولين عن وصول برشلونة إلى هذا الوضع.

طبعا، في عالم مثالي، لم تكن لتضطر للتفريط في ليونيل حتى يشعر الجميع بفداحة الوضع، ولكن في العالم الواقعي؛ لو بقي ليونيل بطريقة ما، كان الجميع سينسى بارتوميو ويلتفت للآمال المعقودة على الليغا في الموسم القادم.

الجميع بما فيهم السوسيوز الذين انتخبوا بارتوميو في المقام الأول.
سنكون قد تجنَّبنا الكارثة في السنتيمترات الأخيرة، وهذا يبدو أهم شيء الآن، ولكن في الحقيقة نحن لن نكون قد تجنَّبناها على الإطلاق، بل قطعنا شوطا كبيرا نحو تكرارها في أقرب فرصة.

كنا سنعتقد أنها معجزة رومانسية حقَّقت العدالة لليونيل ومشجعي برشلونة حول العالم، هؤلاء الذين لم يكن لهم دور في اتخاذ القرارات والاختيارات التي أدَّت إلى هذا الوضع، ولكن الحقيقة هي أنه لا رومانسية ولا شاعرية في الأمر.

تلك فقط ستكون السردية السطحية البلهاء التي يتداولها الجمهور عن القصة، الجمهور الذي يريد أن ينسى الأمر برمَّته في أقرب فرصة ليتمكَّن من التظاهر بأن شيئا لم يحدث.

السردية الحقيقية كانت لتحمل الكثير من القبح،
والكثير من الابتزاز لفقراء الليغا،
والكثير من التحايل على القانون،
والكثير من الاتفاقات السرية والتعويضات غير الشرعية،
وكل ما يمكنك تخيُّله من الممارسات الوضيعة المتوقَّعة في مواقف اليأس. كل هذا قد يبدو لك ثمنا مقبولا ليبقى ليونيل لعام أو عامين إضافيين.


ربما تجد واقعة هنا أو هناك لنادٍ آخر فعل الشيء ذاته وهرب بفعلته.
تلك لن تكون المرة الأولى ولا الأخيرة التي ينجح فيها برشلونة أو ريال مدريد أو غيرهم في لي عنق القوانين والحصول على الاستثناءات، وقطعا لن تكون نهاية العالم، ولكن كل هذا كان سيُفسِد النادي بأكمله بلا رجعة؛ لو وُجد حل سحري لكل ما فعله بارتوميو فلن يتورَّع أحد عن تكرار ما فعله بارتوميو.

كل كذبة جديدة تدين بدين للحقيقة كما يقول فاليري ليغاسوف في وثائقي تشرنوبل الشهير،
والحقيقة، حتى لو ظلَّت مدفونة للأبد، فإن أثرها يظل باقيا، وإن كان هناك حقيقة أقبح من رحيل ليونيل عن برشلونة بهذه الطريقة، فهي أن تطلب من رئيس الليغا، مشجع ريال مدريد المُخلِص، مجاملة صريحة صارخة لكي تتمكَّن من الإبقاء عليه.

هذا معنى جديد للحضيض لن يمحوه الزمن من تاريخ برشلونة.

ربما كان تيباس مُتعسِّفا لأنه علم أن خسائر برشلونة ستفوق غيره.
ربما كانت هناك حلول أقل تطرُّفا أو جذرية في مقدرته.
لن نعلم الحقيقة أبدا حتى تتوقَّف لعبة عض الأصابع بينه وبين لابورتا ويُقرِّر أحدهم قول الحقيقة بدلا من الاكتفاء بتلميحات تُثير من الأسئلة أكثر مما تُجيب.

الأهم من كل ذلك أن الشخص الذي وضع برشلونة في هذا المأزق لا بد أن يُحاسَب، حتى لو كان حسابه هو أن يكون هذا هو إرثه الذي يتذكَّره الجميع؛ أنه الرجل الذي أتى إلى أنجح نادٍ في العالم ليُدمِّره ويتسبَّب في رحيل أفضل لاعبيه عبر التاريخ.

هذه قصة أكثر عدالة، وأجدر بأن تُروى لمَن سيأتون بعدنا من قصة الرجل الذي كاد يدمِّر برشلونة، ولكننا نجونا لأننا تجاوزنا القوانين التي انصاع لها الجميع.

5
هذه قصة أكثر عدالة للسوسيوز الذين انتخبوا بارتوميو كذلك،
وظلّوا صامتين على كل ما حدث رغم فداحته،
وخذلوا معارضيه مرة تلو الأخرى في التصويت على سحب الثقة ولم يُفيقوا حتى فات الأوان،
ولم يكونوا على قدر المسؤولية التي أوكلت لهم،
وتكاسلوا عن أن يبذلوا جهدا حقيقيا في تكوين آرائهم وقناعاتهم،
وصوَّتوا للرجل لأنهم ظنوا أن الحصول على ثلاثية ترد على عاشرة الغريم كان أهم شيء في العالم.

صدِّق أو لا تُصدِّق؛ لم تكن ثلاثية 2015 أهم شيء في العالم،
بل ربما بداية هذه اللعنة التي دفعت بارتوميو لكل قراراته اللاحقة بثقة البلهاء ويقين الحمقى ومباركة الأعضاء.

المصيبة أنه لو كان من الممكن تفهُّم جهل باقي مشجعي برشلونة في العالم بخبايا النادي ونيّات رئيسه وقدراته العقلية الحقيقية، فليس من الممكن تفهُّم الأمر نفسه مع آلاف السوسيوز الذين أثبتوا أنهم لم يستحقوا أن يُحدِّدوا مصير هذا النادي أبدا، ولا أي نادٍ آخر في العموم.

برشلونة لم يُفرِّط في أفضلية خارقة مثل ليونيل ميسي وحسب، بل هو النادي الذي أثبت فشل الديمقراطية كذلك.
النادي الذي أراده أفضل لاعب في العالم ولكنه رفضه،
بصمت أعضائه على تجاوزات لم تحدث في أي مكان آخر،
وفضائح غير مسبوقة داخل الملعب وخارجه،
وبلادة منقطعة النظير استمرت حتى تجاوزت الأمور خط الرجعة.

هذه نكتة سخيفة للغاية لم يكن ليضحك عليها أحد منذ بضع سنوات، ولكن سوسيوز برشلونة حوَّلوها إلى واقع، وأصبح برشلونة هو النادي الوحيد في التاريخ الذي كان يملك أفضل لاعب في العالم وفعل كل ما بوسعه لكي يرحل،
عن جهل أو عمد،
ثم صُدِم من رحيله عندما وقع.

النادي الذي فقد ميسي لسبب واحد واضح؛ هو أنه لم يتخيَّل أبدا أنه سيفقده مهما حدث.

هل تعلم مَن الذي داعب خياله هذا الاحتمال مرات ومرات؟
بارتوميو وروسيل.
هؤلاء هم رؤساء شركة الكهرباء الحقيقيون.
صدمة أخرى؟
ليس بالضبط؛ رغبة الثنائي في التخلُّص من ليونيل كانت واضحة من اليوم الأول، ومرة أخرى، كانت الإشارات حولنا في كل مكان، ولكننا لم ننتبه. لم نُصدِّق.

في إبريل/نيسان 2019، قال جوردي رورا، مساعد تيتو فيانوفا الذي ناب عنه في قيادة برشلونة أثناء مرضه، إن الأخير كان هو مَن أقنع ليونيل ميسي بالبقاء قبل وفاته بستة أيام.
تحديدا، عندما زاره ليونيل في المستشفى ليلة التاسع عشر من إبريل/نيسان 2014، في نهاية موسم تاتا مارتينو الأول والأخير.

بعد تلك الواقعة بأربعة أيام بالضبط، في 23 إبريل/نيسان 2019، كان غييم باياغيه، الصحفي الإسباني الأشهر الذي صاغ سيرة ميسي الذاتية، يؤكِّد أن ممثلي مانشستر يونايتد قد تلقوا معلومة تُفيد بأن برشلونة على استعداد لبيع ليونيل ميسي، وبناء عليها تحرَّكوا للتواصل مع اللاعب، وقدَّموا عرضا لإدارة روسيل وبارتوميو.

أمر مُشابه تكرَّر بعد عدة أشهر؛ في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، صرَّح ميسي في حوار لجريدة “أوليه” (Ole) الأرجنتينية أنه كان يود أن يكمل مسيرته في برشلونة، ولكن في كرة القدم لا تسير الأمور كما تتمنى دائما،
وفي اليوم التالي، كان أبوه خورخي يُصرِّح بأنه لو أتى برشلونة بعرض جاد لبيع ميسي فسيدرسونه.

هكذا بلا مقدمات،
يلمح ميسي وأبوه لاحتمالية الرحيل بلا أسباب واضحة.

المشكلة أن المقدمات والإشارات والأسباب كانت واضحة آنذاك أيضا؛ في موسم 2014-2015، وبعد أن كسر ميسي رقم برشلونة القياسي للتهديف في الليغا ضد إشبيلية، كان بارتوميو قد تولَّى المسؤولية لتوّه، وبدأ على الفور في البحث عن طرق لجمع الأموال، وكان بيع ميسي على رأس خططه.

في تلك الفترة، كان الرجل يأمر بتوزيع بطاقات لاستطلاع رأي جماهير الكامب نو في بعض الأمور، وفي هذه الليلة، ليلة إشبيلية، حملت البطاقات سؤالا من أغرب ما يمكن:
“هل يمكنك أن تتخيَّل بيع برشلونة لليونيل ميسي؟”.

6
هناك نسخة طويلة لهذه القصة، ولكن الملخَّص كان ما قاله مانيل استيارتي صديق غوارديولا الموثوق في وثائقي “Take The Ball Pass The Ball” عندما تحدَّث عن لحظة رحيل بيب عن برشلونة:
“بالطبع كانت هذه لحظة حزينة بالنسبة لي؛ أولا لأننا كنا في نهاية مرحلة رائعة، ولكن أكثر ما أزعجني كان إحساسي بأن الإدارة الجديدة كانت عازمة على تدمير وهدم كل ما أنجزناه، والتركيز على سلبيات تلك الفترة بدلا من البناء على إيجابياتها..
هذا شيء لم أفهمه إطلاقا،
ببساطة لأننا لعبنا جيدا وفزنا”.

مشكلة بارتوميو وروسيل لم تكن في بيع ميسي والقضاء على آثار حقبة لابورتا وكرويف في النادي وبناء “برشلونة الجديد” الذي ينسب لهم الفضل في إنجازاته. كان هذا مفروغا منه.
الفكرة، كل الفكرة، كانت في محاولة إظهار العكس لجمهور برشلونة والعالم أثناء تحقيق ذلك، ونسج سيناريو يرحل فيه ميسي بشكل يُجنِّبهم عاصفة الغضب المتوقَّعة،
وهذا لن يحدث إلا لو كان ما يبدو للعامة أن ميسي قد رحل لأجل المال، بالتالي يصبح هو الخائن، لا مَن باعوه.

هذا هو إرث بارتوميو وشركائه،
وهذا هو إرث مَن انتخبوه،
وهذه هي الكيفية التي يجب أن نتذكَّر بها تلك الحقبة إن كنا ننوي أن نتعلَّم منها أي شيء.

ماذا سيحدث لاحقا؟
لا أريد أن أكون متشائما،
ولكن في اللحظة الحالية، يبدو أن التشاؤم هو الشعور المنطقي الوحيد؛ هناك العديد من الدراسات النفسية التي تؤكِّد أن رحيل النجم الأوحد عن فريق ما قد يكون مفيدا أحيانا، وقد يدفع الباقين للتألُّق والتمدُّد في الفراغ الذي سيخلفه، وربما يكون توقُّع ذلك منطقيا في وجود غريزمان وأيًّا كان مَن سيحاول فعل ذلك من الباقين، ولكن من جهة أخرى، فإن لابورتا قد صرَّح علانية بأن اللاعبين لم يوافقوا على تخفيض رواتبهم، وهذا سيجعلهم هدفا دائما لصيحات الاستهجان من جماهير الكامب نو بعد بداية الموسم، وحتى لو لم يحدث ذلك فسيظل برشلونة وكومان عالقين في حالة الشلل نفسها لفترة لا بأس بها؛ يضغطون على الزر في بلاهة ولكن الغرفة لا تُضاء لأن ميسي لم يعد هنا.

ماذا بعد ميسي؟
هذا هو أصعب ما في الموضوع؛ ستستمر الحياة رغم كل شيء، لأن ميسي، مثله مثل أي إنسان في العالم في موقفه، لا يملك الآن رفاهية التفكير في أجندة باريس السياسية الخفية، ولا خطة اللعب التي ستستوعبه مع نيمار ومبابي وإيكاردي والـ 82 لاعب وسط الذين يمتلكهم بوتشيتينو، ولا هوية مُسدِّد ركلات الجزاء، ولا حقيقة أنه ذاهب للنادي الذي حرمه من أحد أصدقائه وشتَّت شمل الثلاثي الهجومي الأشهر والأمتع في التاريخ، ولا حتى حقيقة أن وجوده مع نيمار في فريق واحد كان هو ما بدأ هذه المتوالية اللعينة في المقام الأول،
وكأن المشكلة كانت في استبدال برشلونة بباريس فقط لا غير.

هذه نكتة أخرى لن يضحك عليها أحد من فرط سخافتها.
ما يُفكِّر فيه ميسي الآن هو أمور أكثر خطورة؛
مثل كيفية نقل حياته كلها إلى بلد آخر،
وكيفية تأقلم أطفاله مع كل ذلك،
وحزنهم لأنهم يتركون الحياة والأماكن والأصدقاء والذكريات التي لم يعرفوا غيرها منذ وُلدوا.

ميسي الآن يُفكِّر في أي كذبة سيكذبها على أطفاله ليُقنعهم أن الحياة في باريس ستكون أروع رغم يقينه بأنها لن تكون كذلك.

هذا هو الجانب الآخر من المصيبة؛ أن ميسي قد ترك كل مُسلَّماته في كتالونيا بدوره، وغالبا سيمر بحالة الشلل نفسها بمجرد انتقاله، عندما يفعل كل ما اعتاد أن يفعله لعشرين عاما فيجد نتائج مختلفة.

ربما لهذا السبب كان بكاؤه أليما لهذه الدرجة.

هذا لم يكن بكاء الغضب الذي بكاه سواريز،
بل كان بكاء الفَقد الذي بكاه إنييستا.

بكاء الخسارة والضياع لطفل أصبح مضطرا لترك كل ما عرفه واعتاده وأحبه لحساب المجهول،
بكاء طفل لا يريد أن يترك منزله وأصدقاءه وحياته رغما عنه،
فجأة ودون أن يحصل على فترة كافية للاستعداد، إن كان هناك ما يعدك لأمر كهذا.

7
لقد كان جيم كارّي، الكوميديان المكتئب، هو مَن قال إنه يتمنى بأن يحصل كل الناس على المال والشهرة حتى يُدركوا أن تلك ليست الإجابة عن أسئلتهم ولا الحل لمشكلاتهم.

يمكنك السخرية منه ومن ميسي كيفما شئت،
ويمكنك الزعم بأن الأموال تجعل كل شيء أسهل.
ربما هي تفعل ذلك فعلا، بل قطعا تفعل ذلك،
ولكن بعض الأشياء لا تخضع لهذه القاعدة،
وإلا لما كان ميسي مستعدا للتضحية بعشرين مليون يورو لكي يبقى، ولما كان ليرفض عروض باريس وسيتي الخيالية المتكرِّرة، التي لم تكن لترتبط بميزانية رواتب متضخمة أو قوانين لعب مالي عادل،
وكانت لتمنحه أكثر حتى مما سيتقاضاه الآن من باريس.

في الواقع، أحيانا تكون وفرة الأموال هي السبب الرئيس الذي يجعلك تُدرك قيمة باقي هبات الحياة، ولكن الأكيد أن الاتهامات المتكرِّرة لميسي بالجشع والمادية لن تتوقَّف، ببساطة لأنها تداعب أحلام الكمال لدينا، وتُشعرنا أن هناك درجة ما من الثراء يمكنها أن تُغنيك عن كل شيء وكل شخص، وتُحصِّنك ضد ألم الفقد والخسارة.

نحن نحب أن نُصدِّق أن المال يملك هذه القدرات،
لأنه التفسير الوحيد -المُرضي- لعملنا الشاق لأجل الحصول عليه.

في الواقع، هذه نظرة شديدة البلاهة والسطحية للحياة؛ صحيح أن الكثيرين يعملون لأجل المال، والمال فقط، ولكنهم لا يفعلون ذلك إلا مضطرين.

أي قدر من الصراحة والتجرُّد سيجعلك تُدرك أن المال
ليس دافعا كافيا لإتقان عملك،
وليس دافعا كافيا للشغف به،
وليس دافعا كافيا للإبداع فيه.

ربما يكون كذلك لفترة من الزمن، ولكنه لن يكون كذلك لخمسة عشر عاما أبدا.
يمكنك تجربة الأمر بنفسك واكتشاف النتائج؛ لا شيء سيدفعك للاستمرار في أي مكان لخمسة عشر عاما سوى حبك له،
ببساطة لأن الملل سيقتلك لو لم تكن تلك هي الحالة،
وستسعى للرحيل حتى ولو براتب أقل بحثا عن التجديد والتغيير.

مع ميسي كان هذا من أسهل ما يمكن؛ كان بإمكانه الرحيل أكثر من مرة براتب أكبر، ولكنه لم يرغب في التغيير أصلا، واتهامه بالجشع أو الجبن لأنه بقي في برشلونة لواحد وعشرين عاما منذ كان في الثالثة عشرة من عمره فقط لا يدل إلا على سذاجة صاحبه وقلة خبرته، وإن كان اتهاما سهلا يروق للغوغاء.

هذه هي نهاية القصة للأسف.
أعلم أنك لم تصل إلى مرحلة التقبُّل بعد،
وعلى الأغلب لن تصل إليها إلا بعد وقت طويل.
أنت فقط لم تدرك هذا بعد.

على الأرجح، أنت تحاول الآن تشتيت انتباهك بالحديث عن توقُّعاتك للموسم المقبل، أو كيفية تسجيل باقي اللاعبين الذين جلبهم لابورتا،
أو محاولة تخيُّل موقع ليونيل في تشكيلة باريس،
أو تحاول تغليب حبك لليونيل على كراهيتك العميقة لهذا النادي حتى تتمكَّن من مشاهدة الطفل رقم 10 يلعب مجددا،
وحتى تتأمَّل في مشاعر مشابهة لتلك التي عشتها معه طوال العقدين الماضيين.

ربما تنجح في ذلك،
وربما لا.

غالبا لن تنجح،
ولكنّ عزاءك الوحيد سيكون أن ليونيل نفسه سيجد صعوبة في ذلك. سيحاول مثلك، ولكن لن يستطيع تجاهل حقيقة أن كل شيء قد تغيَّر للأبد، وأن استعادة الماضي صارت مستحيلة،
وأن تجربة باريس لن تكون أكثر من محاولة يائسة للتمرُّد على الحقيقة المفزعة التي تقول إن ميسي قد رحل عن برشلونة وهو أفضل هداف وصانع أهداف ومراوغ وصانع فرص في الموسم الماضي،
وأفضل لاعب في الكوبا التي تُوِّج بها منذ أسابيع.

لم يرحل وهو يجر قدميه بعد أن أصبح عبئا على فريقه.

هناك نسخة أخرى من هذه القصة؛ نسخة يُودِّع فيها برشلونة أساطيره بشكل لائق، ويرحل فيها أفضل مدرب في تاريخه لأنه أراد ذلك،
لا لأنه أُجبر عليه.

نسخة يفوز فيها برشلونة بالبطولات والمباريات أو يخسرها بعد أن يحاول ما في وسعه ويتفوَّق الخصم عليه،
لا لأن رئيسه المنتخب قرَّر تخريبه لحساب مجده الشخصي.

نسخة لا يصبح فيها أمله الوحيد للإبقاء على أفضل مَن مَثَّله هو استجداء المجاملات من الآخرين.

نسخة كان يستحقها جمهور برشلونة الذي لم ينتخب بارتوميو،
ولم يُصدِّق أكاذيبه، ولم يؤيده في كل صفقة وكل تحرُّك أدَّى إلى الوضع الحالي.

نسخة أخرى، كان ميسي يستحقها، ولكن لم يستحقها برشلونة.

المصدر