التصنيفات
مقالات الضيوف

التاريخ لا يتذكر النتائج

بل يتذكر ما يريده الناس أن يتذكره، يتذكر سردياتهم مهما كانت خيالية وبعيدة عن الواقع مادامت قد تكررت بما يكفي، ويتذكرها حتى لو خالفت النتائج.
هذا الظلم البين يُروج له على أنه إنصاف.

أشعر بالغباء.
أشعر أنني غبي. آسف، نسيت أن أعرفك بنفسي؛
أنا أشجع الأرجنتين..لا..لحظة..دعنا لا نبدأ حديثنا بكذبة..
أنا أشجع ميسي.

لم أشعر بهذا الرابط العاطفي مع أي لاعب آخر رغم أن ميسي يصعب اعتباره لاعب عاطفي أو شخص عاطفي عمومًا.
هذا ما يبدو لنا على الأقل.

إن كنت قد شاهدت لحظة عناق زوجته له بعد وصوله كبطل للكوبا فستدرك ذلك.
تلك اللحظة ستفسر لك تعبيرات وجهه الباردة أغلب الوقت،
وردود أفعاله المتأخرة أحيانًا عندما يقترب منه مشجع أو مقتحم للملعب أثناء المباراة أو بعدها، تلك التي تشعرك بأنه إنسان آلي لا ينفعل أبدًا بالقدر المناسب للحدث.

أنتونيلّا تركض ناحيته كأنه أمريكي عائد من أفغانستان،
وللوهلة الأولى يبدو أنه لا يراها أصلًا،
ثم يلتفت فتقع عيناه عليها فلا يحرك ساكنًا، يقف منتظرًا إياها أن تقطع الطريق كاملة نحو ذراعيه بينما يكتفي هو بالوقوف مكانه، فتحتضنه بينما يبدو هو وكأنه يعتقد أن الأمر لا يستحق كل هذه الجلبة.

الأمر يستحق طبعًا، وميسي يحب زوجته طبعًا، أو على الأقل، هذا ما تؤكده الشواهد المحدودة لأي مشجع حول العالم، ولكن تلك هي طريقته في التعبير عن مشاعره، أو عدم التعبير عنها بالأحرى.
أخيرًا عثرنا على تفسير ما لكل هذا البرود.

لماذا أشعر بالغباء؟
لأنني في تمام الساعة التاسعة مساءًا بتوقيت الأرجنتين، من ليلة الحادي عشر من يوليو 2021، كنت أجلس وأنا أنتظر من 90 دقيقة أن تضيف لميسي شيئًا.
لا أعلم إن كنت شعرت بهذا الإحساس من قبل أم لا؛ أن مصيرك يتوقف على لحظة واحدة ستحدد إن كنت لاعب جيد أو سييء،
متخاذل أم بطل، ولكنها فكرة في منتهى الغباء فعلًا.

تخيل لو كانت أمور أكثر أهمية تتحدد بذات الطريقة،
لو كان يومًا واحدًا أو أسبوعًا واحدًا في حياتك هو ما سيحدد إن كنت بارًا بوالديك أم لا، أو إنت كنت ستعيش سعيدًا أم تعيسًا، هل سيحبك الآخرون أم لا.
ليست فكرة غبية وحسب، بل هي كابوسية كذلك، والحياة معها مستحيلة.
الحياة بلا فرص ثانية وثالثة ورابعة كئيبة للغاية وعدمية، بلا معنى ولا هدف.

نيك هورنبي، أشهر مشجعي أرسنال على الإطلاق، كان يقول في كتابه Fever Pitch الذي تحول لفيلم سينيمائي منذ عدة سنوات، أن علاقته بأرسنال كانت أقوى من أي علاقة حب خاضها في حياته.
كل شيء تغير وتبدل إلا علاقته بأرسنال ظلت كما هي.
لا شيء يفسر كم السعادة التي تدب في جسده عندما يلعب المدفعجية، ولا شيء يفسر علاقتي بأرجنتيني قصير لم أره في حياتي، ولم أحادثه في حياتي، وعلى الأرجح، لن أفعل أبدًا.

أشعر بالغباء الشديد. أشعر أنني غبي جدًا.
الفارق الوحيد أن المباراة قد انتهت والأرجنتين قد فازت وميسي قد حقق أول لقب دولي مع منتخبه في هذه الفئة السنية.
اللحظة التي انتظرتها طويلًا في خيالي كانت محبطة للغاية في الواقع، والفرحة التي كنت أنتظرها لم تصبني.
لا تسيء فهمي؛ أنا سعيد لأجل ميسي والكثيرون مثلي بالتأكيد، ولكنني لا أستطيع منع نفسي من التساؤل؛
هل كان الأمر يستحق كل ذلك؟
ما الذي قدمه ميسي في هذه المباراة تحديدًا يجعله لاعبًا أفضل، أو يجعل مسيرته أكثر إكتمالًا، أو حتى يعوضه عن سنوات الخيبة والألم والإحباط؟
لا شيء.

الإجابة بسيطة وسهلة لأن السؤال غبي بدوره،
وسيظل غبيًا سواء كان موضعه ميسي أو أي لاعب آخر.
في الواقع، من ضمن كل المباريات النهائية التي لعبها ميسي مع الأرجنتين، ربما كانت تلك المباراة هي أقلهم على الإطلاق من حيث مستواه الفردي؛ فريقه دافع أغلب أوقات المباراة ولم يحصل على وقت كافي بالكرة، وحتى عندما فعل لم يكن بأدائه المعتاد.

في الواقع، كان هذا هو النهائي الوحيد الذي ظهر فيه ميسي بلقطة “هيغوايينية” بامتياز إن جاز التعبير؛ فرصة محققة للتسجيل لن يهدرها مرة لو أُعيدت ألف مرة، صنعها له دي بول نجم المباراة الأول، بعد أن صنع أخرى لدي ماريا سجل منها الهدف الوحيد.
هل هناك مفارقة أقسى وأوضح من تلك؟
ميسي لم يكن من أفضل 3 لاعبين في منتخبه هذه الليلة، وقطعًا لم يكن من أفضل 3 على أرض الملعب.

يمكنك ملاحظة قدر الضغط الهائل وغير البشري في محاولاته المستمرة، الأنانية أحيانًا، للتسجيل، بل ومحاولات زملائه لمساعدته في ذلك.

دي بول كان بإمكانه تسديد الكرة مباشرة بعد أن مررها له ميسي، وضعيته كانت تسمح بذلك، ولكنه انتظر وبحث عن ميسي لأنه كان يعلم حاجته للتسجيل في مباراة كتلك، ربما أكثر من حاجة الأرجنتين نفسها لقتل المباراة.

هذه لقطة أخرى تثبت لك مدى غباء الأمر.
هذا تصرف غير منطقي وغير عقلاني ولكنه أتى استجابة لضغوطات غير منطقية وغير عقلانية بدورها.
لو كان دي بول قد سدد لما لامه أحد، ولكن لو لم يسجل ميسي وخسرت الأرجنتين للام الجميع ميسي.

لابد أن هذه المعادلة هي ما دار في رأسه قبل أن يقرر التمهل وانتظار تحرك ميسي خلف دفاع البرازيل، وربما كان ما رغب فيه دي بول هو تبرئة ساحة ميسي من الاتهامات المعتادة في حال خسارة الأرجنتين للمباراة، وهذه مفارقة أخرى مجنونة لا تمت لكرة القدم بصلة.

دي بول كان بإمكانه أن يصبح البطل الأوحد لهذه الليلة بهدف آخر، أو على الأقل، كان بإمكانه أن يحاول.
كلنا نعلم أن دي بول لن يصبح البطل الأول لأي ليلة يلعب فيها ميسي لأسباب جماهيرية ودعائية، حتى لو أحرز تسعة أهداف وصنع سبعة غيرهم وأنقذ 12 هدف من على خط مرماه، ولكنه دخل المباراة مُحمّلًا بهذا العبء؛ عبء مساعدة ميسي وإثبات أن الأرجنتين ليست 10 خشبات، وعبء الضغط النفسي الهائل على زميله، والخوف من مجزرة جديدة بعد الخسارة إن حدثت.

في الواقع، مع كل هذه الأعباء، كان من المدهش أن يقدم دي بول وزملائه ما قدموه. هذا هو الوجه الآخر للعملة في حال لم تلاحظه؛ زملاء ميسي الذين يلعبون لكي يدافعوا عن شرفهم، ولكي يثبتوا أنهم ليسوا عبئًا إضافيًا عليه بدورهم، فالجنون والغباء الهيستيري لم ينل من ميسي وحده.

أشعر بالغباء لأنه كان من الممكن أن تخسر الأرجنتين المباراة لأسباب أتفه بكثير من ذلك؛ مثلًا، لو لم يخطىء لودي تقدير تمريرة دي بول لدي ماريا وهو خطأ كان من السهل تجنبه، أو لو كان الحكم الأوروغواياني أكثر حسمًا مع عنف الأرجنتينيين ضد نيمار، أو لو قرر التحيز للبرازيليين قليلًا لأنه يكره أن تعادل الأرجنتين رقم بلاده القياسي في الفوز بالبطولة، أو لو كان دي ماريا مصابًا، أو لو كان دي بول نفسه مصابًا، أو لو لم يقرر أستون فيلا التعاقد مع إيميليانو مارتينيز في الصيف الماضي، أو لو لم يلتهم أحد الصينيين خفاشًا لينشر وباء عالمي يجعل المباراة تقام في الماراكانا بدون جمهور، ويُفقد البرازيليين أحد أهم مميزات هذا الملعب.

إن كنت قد سمعت عن تأثير الفراشة التي تضرب بجناحيها في السويد فتتسبب في إعصار على سواحل إندونيسيا فلا يوجد مثال أوضح من ذلك، ولكننا نتحيز للنتائج رغمًا عنّا لأننا قليلو الحيلة مفطورون على الشك؛ نتساءل دائمًا ونبحث عن الإجابات ولكن عقولنا محدودة،
لا تستطيع أن تستوعب كم العوامل التي تحدد هذه النتائج.

وبصراحة، لو كانت قادرة على استيعابها لتوقفت الحياة وأصابنا الجنون من فرط الحيرة. نحن نحتاج لدرجة ما من اليقين الساذج الغبي أحيانًا لنعيش، لكي لا نقف عند كل سؤال وتتعطل أدمغتنا.

المشكلة تقع عندما ننسى كل ذلك،
عندما ننسى أن نتائج الانتخابات الرئاسية ونتائج المباريات ونتائج الامتحانات الدراسية ليست أكثر من طريقة ارتضيناها لنتغلب على عجزنا وجهلنا، لكي نتمكن من الفصل بين البشر دون أن تستمر المناقشات والجدالات للأبد وتتعطل الحياة،
وأن عجز هذه الطرق ونقصها من عجزنا ونقصنا،
وأنها ليست حلولًا مطلقة،
ولكنها أقصى ما نستطيع فعله.

عندما ننسى كل ذلك يتحول الجهل إلى تجاهل،
والغباء إلى تغابي،
ونرفض الإجابات الواضحة المنطقية حتى لو قُدمت لنا في أوضح صورها، ونحاول التمسك بالطرق التقليدية بكل ما أوتينا من قوة.

لقد كان رونالدو هو من قال أنك لا يمكنك أن تصبح أسطورة حقيقية لو لم تحقق لقب لمنتخب بلادك،
ولكنها لم تكن أكثر من قاعدة غبية أخرى تبني على ما سبقها.

لم يشهد التاريخ من يستطيع “تحقيق لقب لمنتخب بلاده” منفردًا أبدًا، ولا حتى مارادونا، وبالطبع ولا حتى رونالدو الذي لم يلعب المباراة النهائية أصلًا في 2016، ولم يكن من أفضل لاعبي فريقه حتى في 2019،
ولكنه كان شديد الحماس لدفع عجلة التغابي مادامت تدهس منافسيه.


أشعر بالغباء الشديد لأنني أدركت أخيرًا أن الدعاية الهائلة لهذه الفكرة قد نالت مني وعطلت دماغي. بعد صافرة الحكم، انتظرت أن يحدث تغييرًا ضخمًا ولكنه لم يحدث.
ميسي مازال ميسي،
والأرجنتين مازالت الأرجنتين،
وحظوظها في أي مباراة قادمة مازالت كما هي،
لن يختلف فيها سوى احساس أفرادها بأنهم قد تغلبوا على الوحش، الوحش المختلق المصطنع الذي لم يكن موجودًا أصلًا،
لأن 90 دقيقة لن تجعل ميسي ولا دي ماريا ولا حتى دي بول ومارتينيز لاعبين أفضل، إلا إذا كان من يقيمونهم أغبياء بدورهم.

بعد صافرة الحكم شعرت وأنني قد تعرضت للنصب،
وكأنني أنفقت مدخرات عمري لتبديل آيفون 11 بآيفون 12 ثم إكتشفت أن الفارق بينهم لا يعنيني رغم أن الجميع أكد العكس،
وكأن كل ما فعلته هو أنني منحت الآخرين فرصة لتقرير الاستثمار الأفضل لمدخراتي، والآن أشعر بالغباء لأنني جاريت دعايتهم وصدقتها،
حتى لو نفيت ذلك أحيانًا بدافع الخجل.

التاريخ لا يتذكر النتائج،
بل يتذكر ما يريده الناس أن يتذكره،
يتذكر سردياتهم مهما كانت خيالية وبعيدة عن الواقع مادامت قد تكررت بما يكفي، ويتذكرها حتى لو خالفت النتائج.


التاريخ هو مجرد حيلة بائسة من البشر لتقديس أفكارهم ومنحها حصانة لا تستحقها، حتى تحول إلى إله نعبده على حساب المنطق.

الناس لا يهتمون بنتيجة نقاش على فيسبوك أو تويتر سيخوضه أحفادهم بعد 20 سنة، بل يهتمون بما يحدث اليوم والآن،
وإحالة كل شيء للتاريخ ما هي إلا محاولة بائسة كسولة للتهرب من العقل والحجة، محاولة لتحويل المؤقت والمعيوب إلى مقدس ودائم.

هذا ما يدفع الجانب الآخر لانتاج دعاية مضادة غبية بدورها؛
مثل “كرة القدم التي أنصفت ميسي أخيرًا”،
وكأن ميسي ليس لاعبًا من ضمن فريق،
سيفوز بالبطولة أو يخسرها كفريق،
ببساطة لأنها -مفاجأة- لعبة جماعية،
وكأن الإنصاف هو أن تتجاوز كرة القدم قواعدها وتمنحه الانتصار الذي يريده حتى لو لم يكن فريقه يستحقه،
وحتى لو كان اتحاد بلده لم يأخذ بالأسباب المنطقية لتحقيقه،
وحتى لو كان الخصم أقوى،
وحتى لو كانت الأزمة الأرجنتينية أكبر بكثير من مجموعة أسماء أو مدرب، جيدة كانت أو سيئة.

هذا الظلم البين يُروج له على أنه إنصاف،
لأن الغباء لا يولد إلا الغباء،
ولو كانت الأرجنتين قدمت أسوأ مباراة في تاريخها أمام أفضل مباراة في تاريخ البرازيل وفازت بهدف من تسلل لقيل أن كرة القدم قد أنصفت ميسي، ببساطة لأن هذا ما نريد أن يتذكره التاريخ؛
لا النتيجة وحسب،
بل أنها كانت مستحقة كذلك.

هل كفّ ميسي عن التخاذل فعلًا؟
لو كان ما فعله طيلة السنوات الماضية هو التخاذل فهو قطعًا لم يكف عنه. في الواقع، لو تجاهلنا مسار البطولة وما قدمه خلالها في كل المراحل السابقة، لكانت المباراة النهائية وحدها هي المناسبة المثالية لاتهامه بالتخاذل، أيًا كان معنى تلك اللفظة.

هل كف زملاءه عن التخاذل؟
هل كان هذا هو ما حقق لهم الكوبا هذه المرة؟
سؤال غبي آخر لأن الحقيقة التي قد تصدم الكثيرين أن لاعبي الأرجنتين يرغبون في الفوز بدورهم، ولا يفضلون أن يتم التمثيل بجثثهم في الصحف عقب كل بطولة دولية،
ومجرد التخيل أنهم “يتخاذلون” عمدًا هو تخيل أحمق.

سيناريو المواجهة لم يكن مثاليًا أبدًا لميسي،
لم يصنع ولم يسجل ولم يقم بأي فعل مما قد يعتبره الجمهور مؤثرًا في النتيجة، ولكن ذات السيناريو كان مثاليًا لدحض الخرافة وإثبات مدى غباء الفكرة؛ ميسي فاز باللقب لأن زملاءه ساعدوه بعد أن ساعدهم،
ولولاه ولولاهم لما رفع أي منهم الكأس.

طريق التعافي من الغباء المسيطر على الساحة منذ 2010 يبدأ من إدراك هذه الحقيقة والتسليم بها.
لو كان ميسي متخاذلًا فعلًا فلا شيء قد تغير،
ولو لم يكن فلا شيء قد تغير أيضًا،
ولو لم تكن هذه المباراة قد أقنعتك بأن هذا الغباء يجب أن يتوقف فلا بأس، لن تكون الأول ولا الأخير على أية حال،
ولكنني لم أعد قادرًا على ابتلاع الغباء أكثر من ذلك.

المصدر