التصنيفات
المدونة

القيادة هي نموذج للحياة في مصر

الفرق ليس في البشر الفرق في النظام

منذ سنوات استقبلت ضيف من الخارج في زيارة سريعة لمصر، وقبيل انتهاء زيارته تحدثنا عن ماذا لفت انتباه في مصر ومن ضمن ما قال إن السيارات في مصر قديمة وفي حالة سيئة، قلت اما انها قديمه فهذا لارتفاع قيمة الجمارك وانخفاض الدخول في مصر، وأما حالتها فهذا موضوع اكثر تعقيدا.

صديق يحكي لي أنه في أحد زياراته في ألمانيا أحد المرافقين له فتح باب السيارة فاصطدم بباب السيارة المجاورة، (شيء عادي يحدث كل يوم في مصر) لكن أصحاب السيارة الأخرى انزعجوا بشدة واصروا علي تحرير محضر بالواقعة، رغم أن الإصابة بسيطة للغاية، تكاد لا تري بالعين (المصرية) المجردة، لكنه من غير المقبول هنا أن تُحدث ضررا لغيرك ويمر الأمر بهذه السهولة حتى لو كان التأمين سوف يغطي التكلفة.

أشعر أن السيارات في مصر شبه المصريين، وأن القيادة هي نموذج للحياة في مصر، قد يبدو كلامي غريب لكن دعني احاول ان اشرح كيف اري القيادة في مصر من شخص جرب القيادة في عدة دول منها عربية وأوروبية.

دعني احكي لك مذكرات سائق مصري،

نازل في ميعاد مناسب، مستعدا ليوم جديد وخناقة أكيدة في الطريق، في الطريق الى مدرسه الاولاد أصل في ميعادي لكن الطريق يقف تماما قبل المدرسة ب٥٠٠ متر بسبب أن أحد الأمهات تركت السيارة في منتصف الطريق كي توصل ابنها لباب المدرسه، الغريب أن الجميع متفهم ومتأقلم مع الموقف، لم يضرب أحد كلاكس أو اسمع اي شتائم، صحيح الموضوع لم يزد عن دقيقتين لكن لو ضربت ١٠ سيارات في دقيقتين هذا يعني أن هناك ٢٠ دقيقه تم إهدارها من هؤلاء الواقفين منتظرين الام وهي توصل اولادها الي باب المدرسة، ثم ركبت الام السيارة تملؤها نشوة الانتصار ومضت، فقد وفرت علي نفسها وأبنائها مشي ٢٠٠ متر او اقل من دقيقه، صحيح أنها أضاعت علينا ٢٠ دقيقة لكن هذا لا يهم المهم انها استفادت.

ركنت السياره بعد باب المدرسه والاولاد نزلوا وسلمت عليهم وانطلقت إلى المكتب، في أول تقاطع سياره تمشي عكس الإتجاه وبسرعه شديده، طبعا اضطررت أن أخفض سرعتي والتزم اليمين لإفسح المجال للسيارة القادمة عكس الاتجاه واذا بها ليست سيارة واحدة بل عدة سيارات، السبب أن هناك مخرج كمبوند واليوتيرن على بعد ٥٠٠ متر وكل (وليس اغلب) السيارات الخارجه من الكمبوند “بتاخدها عكس”، صحيح هو عرض حياة الآخرين للخطر وعطل الطريق على عشرات السيارات لكن مش مهم المهم أنه وفر دقيقة من وقته. مرة أخرى انتصر المخالف ووفر وقت وجهد على حساب الغير.

ثم أكملت طريقي حتى وصلت الدوار، لا احد يعرف اصلا قواعد الدخول والخروج منه، لكن القاعدة الأساسية هي (اللي يلحق) وهنا أنت إذا التزمت القاعدة المرورية الشهيرة (وهي أن الأولوية لمن بداخل الدوار) سوف تقف هنا الي الابد وطبعا سوف تسمع ما لا ترضاه، دخلت وتمكنت من العبور بسلام، لايهم هنا القواعد لان القاعده الوحيده هنا هي بوز عربيتك عدي الاول ولا لأ والبقاء للأقوى

إصلاحات في الطريق وحفرة كبيرة جدا لم الاحظها وطبعا نزلت السياره فيها، غالبا سوف احتاج تغير المساعد قريبا، فمن المعروف في مصر أن المساعدين لا يعيشوا طويلا. إهمال من شخص ما كلف عشرات السيارات مساعدين بدون أي داعي، لكن ممكن أن ننظر للأمر من منظور اخر، على الاقل مستوردين المساعدين ياكلوا عيش.

لم يمضي كثيرا ووجدت سياره معطله علي يمين الطريق، احاول ان الزم اليسار، ضربت اشاره لكن لا أحد يهتم بهذه الأنوار، هل انت طفل حتى تلعب بانوار السياره، وماهذا اللون الاصفر الغريب؟ ما معناه؟.-إذا كانت المساعدين لا تعيش في مصر فإن لمبات الاشاره تعيش عمر طويل جدا- المهم بعد فترة أدركت انني اذا كنت اريد ان اذهب للعمل يجب علي أن أعتمد على نفسي وأخذ حقي بدراعي، لا قوانين هنا ولا ذوق أو نظام، البقاء للاقوي، وفعلا حطيت بوز العربية و استطعت أخيرا أن أهرب من هذه الازمه وأمر من السيارة المعطلة، لكن لم يمر كثيرا حتى شعرت بسيارة تصدمني من الخلف، كان رجل لطيف شاور لي أنه اسف فابتسمت واكملنا الطريق، نحن هنا نعلم جيدا أن معركة القيادة لابد أن يكون هناك إصابات، الحمد لله انها جت علي كده وأكملت الطريق.

عندما سافرت إلى ألمانيا وجربت القيادة هناك كان هناك أمر مبهر لي (مصري ساذج) وهو حجم الثقه الرهيب في الاخر، مثلا تمر السيارة من جانبك بسرعة عالية جدا لا يحتاج أن ينبهك قبلها بكلاكس أو أضواء، هو يثق في أنك لن تغير الحاره بدون اشاره والنظر في المرآة والنظر في النقطة العمياء (ناس كتير في مصر لا تعرف ما هي من الاساس)، مثال آخر عندما تتغير الاشارة الى الاخضر الكل يتحرك ولا ينظر ابدا اذا كان هناك سيارة لازالت تحاول المرور، الكل متأكد مليون في المائه أنه من المستحيل أن يكون هناك شخص عاقل يفعل هذا، انا لازلت في كل اشاره انظر إلى الجانب الآخر من الطريق، في كل تقاطع انظر الى السيارة الواقفة منتظرة أولوية المرور وافكر ماذا إذا قرر الخروج، حتى بعد أيام من القيادة لازلت لا استطيع ان اثق في الاخر، لازالت تجاربي في مصر لها أثر كبير على، هل عندي ازمه ثقه؟ هل أصبحت شخص مريض يحتاج علاج؟ ربما.

الفرق ليس في البشر الفرق في النظام، هناك قانون الكل يحترمه لأنه مضطر يحترمه، لان هناك عواقب لعدم احترامه، نحن أيضا عندنا قوانين، لكن يمكن بسهولة وفي أغلب الوقت الهروب من أي عقوبة، يظل دائما كسر القواعد يوفر على من يستطيع كسرها الوقت والجهد، وطبعا الثمن يكون من باقي المجتمع، مع الوقت فقدت القوانين معناها، حتى أن بعضها موجود ولا يعلم عنه أحد (مثال أولوية المرور في الدوار) والأصل هو البقاء للاقوي، اذا كنت قوي تعرف كيف تكسر القوانين دون عقاب، فإن مصر سوف تكون جنة لك، انزل متأخر وامشي عكس واركن ادام باب المدرسة، أما إذا كنت لا تحسن هذا، فسوف تصل متأخرا وأحيانا سوف تعاني من إصابات في سيارتك دون أن يعوضك عنها احد، اذا كنت هذا الشخص فمصر ليست مكانك.

عندما تشاهد أي فيلم اجنبي غالبا سوف تسمع جملة “سوف اتصل بالشرطة” مع أي مشادة ولو بسيطة، أو “سوف ارفع قضيه عليكم” مع أي خلاف، احساس كبير باستحقاق العدل، وثقة كبيرة في المنظومة ساعدت على بناء ثقة متبادلة بين أفراد المجتمع، قد يظن البعض أنها مبنية فقط على أخلاق لم تعد موجودة في مجتمعنا لكن في رأيي هي مبينة في الأساس على قوة النظام، اتمني اتصل بالشرطة وارفع ألف قضية علي ناس كتير واخده حقوقنا حتى لو حقوق بسيطه، الإحساس أن هناك طريق لأخذ الحقوق هو احساس العدل هو أكبر دافع للعمل والإنتاج وحب الوطن.

المصدر