التصنيفات
مقالات الضيوف

الإنسان دون انتماء كائن هش وضائع

الشعور بالوحدة والنبذ سكاكين تقتل الشخص داخليا ألف مرة، وبعضهم للأسف بعد فترة يوجهها لطعن الآخرين بالخارج

الجريمة مش مجرد خبر مُفجِع بنسمعه وبينتهي بعقاب الجاني، الجريمة عدسة هامة وخطيرة بتبين نفسية الشعوب وتحدياته وظواهره الاجتماعية بدقة..

ففي جريمة قتل نيرة أشرف رحمها الله، لا يصح أن نقول أن القاتل كان مصابا بمرض نفسي نادر وهو الهوس الشغفي ونقف!

لأن التحليل النفسي فقط هيكون محدود وهيكون غير دقيق، فهناك عوامل متشعبة ومتعددة قد تجعل آثار نفس الاضطراب تختلف من شخص لآخر، ولذلك تحليل الجريمة اجتماعيا هو بنفس الأهمية.

وفيما يلي، سأعرض ما أعتقد أنه ضروري لنفهم ونتعلم وننقذ أطفالنا من هذا المصير بتحليل الجريمة بناء على ما نُشر في الصحف.

في دراسة أمريكية عام ٢٠١١، حاولت تدرس العلاقة بين التفوق الدراسي والقبول الاجتماعي، فهل كونك متفوق وذكي يضمن لك علاقات اجتماعية ناجحة؟

الدراسة كانت نتائجها مثيرة للاهتمام والغرابة، فبعد بحث أكثر من ١٠ آلاف شخص، وجدوا أن المتفوق دراسيا بيتم الاحتفاء به وقبوله اجتماعيا في سن ما قبل المراهقة، (في المرحلة الابتدائية)، وبيكون كمان محبوب ومشهور بين الطلاب، بعكس ما بعد المراهقة، وجدوا أنه كلما زاد اهتمام الطالب ببذل الجهد للتفوق، كلمت قل قبوله الاجتماعي وقلت ثقته بنفسه وزاد شعوره بالوحدة!

علاقة غريبة ومرعبة!

لماذا لا يحب مجتمع المراهقين الذكي المتفوق دراسيا رغم أنه غير مؤذي، بِقدر قبوله للذكي غير المتفوق والذي لا يهتم كثيرا بالعلامات الدراسية حتى لو حصل عليها؟

لماذا ينبذ المكترث؟

والإجابة هي أن مجتمع المراهقين وفي سن بداية النضج يحب ويقبل من يشبهه ومن يخالف توقعات الآباء ويتحداهم، أما من لا يتبع السلوك العام لمجموعتهم يُنبذ، وبما أن المتفوقين غالبا ما يكونوا أقلية، (فهم لا يشبهون عموم المراهقين المُنّصب اهتمامهم على التمرد ومخالفة الناضجين) . فيتم نبذهم اجتماعيا، ويفقدون شعبيتهم القديمة، ليس لذكائهم ولكن لاهتمامهم بالدراسة.

طيب ما هي أهمية هذه الدراسة في تحليل جريمة قتل المرحومة نيرة أشرف؟

أولا أن قاتلها كان متفوقا دراسيا، بحسب أقوال الزملاء والأساتذة وكان له فرصة التعيين بالجامعة.

وقال جيرانه أنه كان شديد الانطواء وليس له أصدقاء ولم يكن حتى يلقي السلام حتى على المارة بالرغم من إقامته في منطقة شعبية (معروف عنها ترابط العلاقات بين الجيران).

طيب، ماذا لو قلت لك أن هناك دراسة أخرى أكدت أن مستوى شعبيتك وقبولك الاجتماعي (من الطفولة) مؤشر هام على مهاراتك الاجتماعية وغالبا ما يحدد مدى نجاحك في مستقبلك ومدى انخراطك في العمل العنيف أو الإجرامي

وماذا لو قلت لك أن النبذ الاجتماعي يغير من توصيلات المخ ويغير طريقة رؤية الشخص للأمور تماما!

كيف؟

الحقيقة أنهم وجدوا أن المنبوذ يصبح لديه انحياز من أثنين (لست واثقة من صحة هذه الترجمات بالعربية):

١- انحياز الحكم العدائي

Hostile attribution bias

وهو انحياز يجعل الفرد يفسر المواقف العادية كمواقف فيها هجوم شخصي عليه، فمثلا أثنين بيضحكوا مع بعض عادي، هو هيشوفهم بيضحكوا عليه رغم أنه مش طرف في الموضوع.

مثلما قال القاتل في أقواله: كانت تضحك مع صاحبتها في الباص ولم أسمع ما قالوا بس كانت بتلسن وتتريق عليا وتقلل مني فاستفزتني وقررت أنفذ جريمتي.

٢- انحياز حساسية الرفض

‏Rejection sensitivity bias

وده انحياز بيخلي الشخص بيفسر مواقف عادية بأنه مرفوض فيها وغير مرغوب فيه، مثلا خروجة اتفق عليها أصحاب واتلغت عادي، هو يشوف أنهم ندموا أنهم قالوله وأنهم بيتخلصوا منه عشان هو مش محبوب وإن عزومته كانت بالغلط أصلا..

فطول الوقت مش بيصدق أنه مرغوب فيه، وبيهرب وينغلق على نفسه.

الفرق ما بين الانحيازين، أن الأول (الانحياز العدائي) له علاقة مهمة بالسلوك العنيف، والمنبوذين المرفوضين في العموم هم أكثر فئة تقدم على العنف والجريمة.

ومحمد كان عنده أسباب نبذ مختلفة، الانطواء، وكرهه لفقره، اليتم والشعور بالصغر أو الاستضعاف، التفوق الدراسي، إلخ..

فهو في عقله كان محملا بكثير من الأعباء النفسية التي جعلت قيمته الذاتية متقزمة وصغيرة.. فحين مال إلى نيرة، اختار فتاة جميلة، واثقة في نفسها، طموحة، الكل يريدها، مختلفة شكلا ومضمونا عن بيئتها وأسرتها، فتاة ارتباطها به سيثبت للناس أنه ليس صغير القيمة وأنه مرغوب فيه ومحبوب، وهو لم يكن لديه الكثير ماديا ولا مكانة ولكنه كان يحاول التفوق الدراسي ليثبت لها أنه جديرا بها ولأنها كانت الوسيلة الوحيدة للصعود الاجتماعي..

ولكن حين مارست نيرة حقها في رفضه وصده كأي فتاة عادية.. وجد أن في رفضها له عداء على شخصه، وتقليل منه، واستهزاء به.. وده بسبب انحياز الحكم العدائي!

ولذلك رد على القاضي حين سأله ما مفهوم الحب عندك، قال صراحة أن الموضوع مش موضوع حب، “ناس بيحبوا ويتجوزوا ويسيبوا بعض، إللي يزعل إنك تكون كويس مع حد فالحد ده يقلل منك ويضحك الناس عليك ويبهدلك”

الحقيقة نيرة معملتش حاجة عشان تقلل منه بشكل مباشر طبقا لأقوال النيابة والشهود وبمراجعة المحادثات بينهم، بالعكس أكدتله أنها مش بترفضه لفقره ولا حاجة وإنه إنسان ناجح لكن هي ببساطة مش عايزاه” ، ولكن لأنه هش نفسيا ومهزوز وانحياز العداء مسيطر عليه، مجرد رفضها له أمام الجميع فضح مدى تقزمه، وخلاه يشوف حقها في رفضه اعتداء على شخصه وتقليل منه.. وبدأ يفسر كل تصرفاتها على أنها هجوم عليه..

ملاحقته لنيرة لم تكن حبا ولا شغفا ولا امتلاكا. هي كانت مجرد ستار أراد به أن يخفي تقزمه النفسي، فحين رفضته، شعر أنه في العراء، وأنه أصبح دون قيمة، وأنه أصبح أضحوكة بين الجميع، ولذلك غضبه صور له أن الوسيلة الوحيدة لاسترداد كرامته أن يثأر وينتقم علنا بموتها!

لو كان الأمر مجرد امتلاك، لقتلها سرا، ليضمن أنها لن تكون لغيره، ولاذ بالفرار من العقوبة، ولكنه قتلها علنا، أمام المارة في شارع رئيسي ودون تناول أي مخدرات.. لم يهتم بأن يلقى القبض عليه، هو ببساطة كان يرى أنه له حق الدفاع عن نفسه ضد عدائها، يرى أنه ضحيتها، حتى أنه قال في التحقيقات، إن لم أقتلها كانت ستقتلني!

هو كان يرسل رسالة للجميع بأنه قوي، وموجود ويعيد إنتاج قيمته بالجريمة العلنية، دون إخفاء! ولذلك لم يكن الأمر له علاقة بالشغف إطلاقا.. هي حرب نفسية داخلية وقعت نيرة ضحيتها..

ولذلك فهم كيف تؤثر البيئة وعلاقاتنا بالآخرين شيء ضروري جدا عشان نحمي أولادنا من أن يكونوا قاتلين أو ضحايا.

الاستثمار في علاقات أولادنا مع أصدقائهم ومساعدة الأطفال على اكتساب مهارات اجتماعية ذكية وناجحة تقيهم شر الأمراض النفسية والجسدية بشكل كبير.

الإنسان دون انتماء كائن هش وضائع، دون علاقات قوية وناجحة مع الآخرين يصبح فريسة لعقل يتم تشويهه داخليا..

الشعور بالوحدة والنبذ سكاكين تقتل الشخص داخليا ألف مرة، وبعضهم للأسف بعد فترة يوجهها لطعن الآخرين بالخارج.

مهم يكون لأولادك دائرة أصدقاء ولو صغيرة، معم تساعدوا ولادكم يعززوا صورتهم الذاتية باستمرار ومنربطهاش بشكل ولا مستوى مادي ولا اجتماعي ولا تعليمي ولا نسب.. هو شخص له قيمة بمجرد وجوده، وبأخلاقه وإن لم ير الآخرين ذلك.

ومهم نشجع ولادنا يتفاعلوا مع أي طفل بيلعب لوحده، ويهتموا، وندمج كل منبوذ حتى لا يدمر نفسه والآخرين حين يكبر..

المصدر