التصنيفات
مقالات الضيوف

عن معارك محمد صلاح

 

لسنوات طويلة كان المعروف عن «يوهان كرويف» أنه رفض المشاركة بمونديال 1978 بالأرجنتين لأسباب سياسية تتعلق بتجنب المشاركة في الدعاية للنظام العسكري الحاكم هناك. وبعد 30 عامًا، وفي حوار مع صحيفة الغارديان، كشف الهولندي عن سببٍ مختلف؛ وهو تعرضه وعائلته لتهديد مسلح في منزله ببرشلونة. ويُقال إن هذه الحادثة كانت بغرض تخويفه من الذهاب مع المنتخب الهولندي إلى الأرجنتين!
لو كانت القصة التي تناقلتها الصحافة والمشجعون عبر السنين حقيقية، فهذا يعني درجة معينة من الأخلاقية والبطولة مثّلتا المحرك في قراره. وإن كانت قصة التهديد المسلح هي الحقيقة، فقرار كرويف بعدم المشاركة كان خوفًا إنسانيًا وحفاظًا السلامة، فهل ينتقص ذلك من اللاعب الهولندي التاريحي؟
—————————————-

«صلاح بطل الملعب»

الثابت هو أن البطولة الوحيدة التي لا بد أن يقدمها لاعب كرة القدم هي بطولة الملعب؛ الأهداف والألقاب والمجهود والإصرار. وأي بطولة خارج الملعب ناتجة عن انحيازات أخلاقية هي أمر زائد؛ إن فعله لاعب كرة قدم، صفقنا له واعتبرناه بطلاً. وإن لم يفعلها، فلن ينتقص ذلك من قدره.
هذه هي صورة صلاح التي يعرفها عن نفسه. إنه لاعب محترف في الدوريات الأوروبية الكبرى. يمكنه أن يحمل عبء حلم ليفربول بالتتويج الغائب منذ سنوات. ويمكنه أن يكون اللاعب الذي سيتقدم لضربة الجزاء الحاسمة في صعود منتخب مصر للمونديال بعد غياب السنين. صورة صلاح عن البطولة هي أن يتحامل على نفسه ويلعب رغم الإصابة.
لا يريد صلاح أن يكون صاحب موقف سياسي، ولا يريد أن يكون صاحب رأي في قضية ما مثلاً، هو لا يريد إلا أن يكون واحدًا آخر من لاعبين أجانب جاءوا إلى الدوري الإنجليزي، فأصبحوا نجومه. هذا هو السياق الذي يريده ويفهمه. يريد أن يصبح سواريز ليفربول مثلاً، لكن الحياة ليست بهذه البساطة. والصورة المسالمة التي يريدها صلاح لنفسه لن يجد الواقع الذي يمكنه تحقيقها فيه.
وهذا هو سبب تعاقب الأزمات واحدة تلو الأخرى؛ صلاح يرى صورة، والواقع يفرض عليه سياقًا آخر. وإن كان هذا هو الوضع، فإلى أي درجة يمكننا أن نصنف صلاح كضحية لمواقف ليس من العدل أن يجد لاعب كرة قدم نفسه فيها، وإلى أي درجة يمكننا أن نراه مسؤولاً عن نتيجة خياراته؟
————————————–

«اتحاد كرة القدم المصري والدجاجة الذهبية»

يمكن تخليص طريقة تعامل اتحاد الكرة المصري مع محمد صلاح في حكاية الدجاجة التي تبيض ذهبًا، فقرر أصحابها طمعًا أن يذبحوها. وفجأة وجد صلاح نفسه ثمنًا لصفقة بين اتحاد الكرة المصري وبين النظام الشيشانيّ. فقبل المونديال كان رئيس الشيشان رمضان قاديروف يواجه اتهامات بالقمع السياسيّ الذي يصل لتصفية المعارضين، وارتكاب جرائم القتل الجماعي ضد المثليين جنسيًا، والاغتيالات ضد صحافيين. وهو ما دفع منظمة هيومان رايتس ووتش للضغط على الفيفا من أجل استبعاد جروزني العاصمة من قائمة المدن المستضيفة لكأس العالم.
أراد قاديروف أن يستغل المونديال لاكتساب شرعية دولية له. ومنحه المسؤولون المصريون ذلك باختيار جروزني كمقر لإقامة المنتخب رغم أنها تبعد مئات الأميال عن الملاعب التي استضافت مباريات المنتخب المصري. وبذلك أصبحت الفيفا مجبرة على إبقاء غروزني بين مدن المونديال. وبقية الحكاية معروف بالطبع، وهي أن يظهر صلاح جانب قاديروف في احتفال تنظمه حكومة الشيشان.
السياق الذي يضع اتحاد الكرة فيه صلاح هو سياق العلامة التجارية الرابحة وتميمة عقد صفقات خاصة. والحقيقة هي أن صلاح لم يقاوم هذا الاستغلال مادام سوف يدفع عنه الاصطدام مع المسؤولين. وقبل الوجود في سياق لا يناسبه، فقط كي لا يتأثر السياق الأساسي الذي يريده؛ وهو أن يُكمل مسيرة لاعب كرة القدم المحترف الناجح مع ناديه ومنتخب بلاده.
——————————————————–
«الصحافة الإنجليزية والملك المصري»

وضعت الصحافة الإنجليزية صلاح محل الاحتفاء طيلة موسم مضى، ولكن هذا لا يأتي من دون تبعات. فالسؤال الذي ساد الصحافة هناك بعد صورة صلاح وقاديروف هو: لماذا، وكيف يشارك صلاح في تبييض وجه فساد هذا الشخص؟
والحقيقة أن للسؤال وجاهته. فقبل أيام قليلة حكى رحيم ستيرلينج أن ابنته الصغيرة تشجع ليفربول، وليس مانشستر سيتي. وبالتالي فبطل هذه الطفلة هو صلاح وليس والدها. ربما ترى هذه الطفلة يومًا ما صورة صلاح (الذي تحبه) مع قاديروف (الذي لا تعرفه)، وأغلب الظن أن هذه الصورة سوف تكون سببًا في أن يتكون لدى الطفلة انطباعًا جيدًا عن هذا الرجل الذي ارتكب كل تلك الجرائم في حق شعبه.
ما ينطبق على هذه الطفلة ينطبق أيضًا على مئات الآلاف من المحبين لصلاح. وهذه هي المسؤولية الأخلاقية التي تفرضها شهرة النجاح ومحبة الناس. ووضعت الصحافة الإنجليزية صلاح في هذا السياق. ولا يمكن لوم أيٍّ ممن انتقدوا صلاح هناك. خاصة وأننا نعرف أن الأمر كان ليصبح أعنف، وكان الهجوم ليصبح أقوى لو أن من فعلها كان إنجليزيًا. فلم تكن الصحافة هناك لتتردد في هجوم أقوى على هاري كين مثلاً لو أنه وقف في صورة يتلقى الثناء والجنسية الشيشانية من قاديروف.
وهذا سياق آخر لا يحبه صلاح، يتجاوز فيه حدود لاعب كرة القدم، ويصبح شخصًا مؤثرًا على حياة آلاف المعجبين. وتصبح مسائلته عن قناعاته أمرًا مشروعًا.
————————————————
«ظلال أبو تريكة»

السياق الثالث الذي يجد صلاح نفسه محاصرًا به هو المقارنة بالمستمرة بمحمد أبو تريكة. والمطالبة المستمرة من قطاعات سياسية واسعة بأن ينحاز صلاح سياسيًا مع أو ضد النظام المصري. وهو ما حاول صلاح تفايه منذ البداية.حتى أن أحد الصحافيين سأله في لقاء تليفيزيوني ذات مرة، إن كانت لحيته تلك ذات طابع إخوانيّ. فراوغ صلاح الإجابة مازحًا، ولم يرد بنفي أو إيجاب.
لقد حسم أبو تريكة قراراته منذ وقت طويل. وقرر الانحياز إلى ما يراه أخلاقيَا، وقرر التضحية من أجل هذا الانحياز. وتجاوز بذلك مساحة البطولة الكروية لمساحة أوسع، لا يمكن أن تُطلب من صلاح لأنه في النهاية لاعب كرة قدم، ولم يقدم نفسه أبدًا في دور يتجاوز ذلك.
———————————————–
«من هو صلاح؟ »

الحقيقة أن هذه السياقات الثلاثة لم يكن ليجد صلاح نفسه فيها لو كان غير مصريّ. فرياض محرز مثلاً لم يواجه استغلالاً مجحفًا من اتحاد الكرة في بلاده. ولم يجد نفسه متورطًا في اتهامات ذات طابع سياسي وأخلاقي من الصحافة الإنجليزية بسبب استغلال هذا الاتحاد له. ولم يطالبه أحد بإعلان موقف مع أو ضد نظام الحكم في بلاده. ويسهل أن نجد صلاح ضحية لهذا الموقف المعقد. ولكن هل أجاد صلاح التعامل معه؟
الحقيقة أن صلاح حاول دائمًا أن يمسك العصا من المنتصف. وأن يتجنب المواجهات المباشرة كلما أمكن بأن يخضع للاستغلال مادام لا يؤثر على مسيرته كلاعب. أو أن يراوغ التصنيف والانحياز. وفجأة انهار كل شيء فوقه في لحظة.
الحياة ليست عادلة، وفي أحيان كثيرة لا يمكن للإنسان أن يخضع العالم لقبول تصوراته الشخصية عن نفسه. والأقرب للتحقق هو أن ينتصر ذلك العالم، ويجبرك أن تجيب على أسئلة لا تحبها.
كان يمكن لصلاح من البداية أن ينحاز ضد قرار اتحاد الكرة بإقامة بعثة المنتخب على بعد مئات الأميال من ملاعب إقامة المباريات. وكان يمكنه أن يخرج رافضًا بعثة الفنانين المصريين التي وصلت مقر إقامة المنتخب محدثة أكبر قدر ممكن من التشتيت لتركيز اللاعبين. وكان يمكنه استغلال مكانته في المنتخب كلاعب شهير، في أن يرفض عوامل كثيرة ساعدت في الوضعية الكارثية التي وصل إليها المنتخب المصري في كأس العالم. لكن ذلك يتطلب بداية أن يفهم صلاح وضعه في ذلك الصراع. وأن شهرته عالميًا يمكنها أن تضعه في موضع قوة لا موضع ضعف. وأغلب الظن أنه قد فهم ذلك متأخرًا جدًا، عندما هدد بالاعتزال الدولي. ولكن بعد فوات الأوان.
كان على صلاح أن يدرك كذلك وضعه في إنجلترا. وأن دوره لا يقتصر على بطولة الملعب التي سينال من خلالها المديح والثناء. ولكن للأمر تبعات. وجهله مثلاً بمسألة قاديروف لا يمكن أن يكون مبررًا تتغافل الصحافة بسببه عن انتقاد صلاح. فاللاعب الشهير يمكنه أن يكوّن صورة عن الرجل المكروه دوليًا ببحث لا يستغرق دقائق عبر جوجل. لأن أفعال صلاح وحتى إن لم يكن مدركًا لها، فسوف تكون مؤثرة على الآلاف غيره. وهذا هو قدر كل المشاهير المحبوبين شعبيًا.
ربما يكون محمد صلاح مجرد لاعب متوسط الثقافة والمعرفة. وربما يكون إدراكه لذلك، وقراره بمحاولة تجنب الصراعات والمواجهات هو سبب ما وصل إليه الأمر. ولكن الأكيد أن الحياة لا تمنح الإنسان وضعًا مريحًا لمجرد أنه قد اختار ذلك الوضع. صورة صلاح عن نفسه كمجرد لاعب أثبتت أنها غير صالحة للتعامل مع العوالم التي ينتمي إليها الملك المصري. وأثبتت أن الأمر كان ليختلف لو أن تعريفه لنفسه كان أكثر تركيبًا من تعريف بسيط لا يناسب ما وصل إليه من شهرة عالمية، وبالطبع لا يناسب كونه مصريًا في هذه الفترة من تاريخ مصر.
في داخل الملعب يعيش صلاح بطولته التي لا يمكن أن يناقش أحد ما وصلت إليه من عظمة، وفي خارج الملعب يعيش صلاح كمصريّ تقليدي، يرغب الحياة في الظل بعيدًا عن المعارك، غير باحث عن البطولة، لكن المعارك تبحث عنه.

https://www.facebook.com/ilpadrino1989/posts/10215292596404616