التصنيفات
مقالات الضيوف

الشعوذة المصرية: تمييز طبقي!

اندلعت الحرب بشكل علني الأسبوع الماضى. المعارك التي كانت مَطمورة وتدور في العالم السفلي، تصعد للسطح الآن. الشيخ محمد المغربي، وهو أردنى يمتلك قناة “الطب النبوي” الفضائية، ظهر الأسبوع الماضي في قناة “القاهرة والناس”، وهاجم بالأسماء من يصفهم بالدجل والشعوذة من أصحاب القنوات الأخرى الذين يدّعون القدرة على شفاء الأمراض وحلّ جميع المشاكل الصحية والنفسية بالأعمال السفلية والرقية والأدعية. المغربي أعلن أنه بات يتنقل مع حرّاس مسلّحين، لأن الحرب التي يشنها على شيوخ المغرب ومصر جلبت له عشرات التهديدات وتعرض بالفعل لمحاولات اغتيال وقتل.
تحارب قناة المغربي الفضائية، الجدل والشعوذة، لكنها تقدم نصائح وخدمات واستشارات للعلاج… بالقرآن. يدافع الرجل عن نفسه بأن ما يقدمه هو العلاج الروحانى الصحيح، وأن الآخرين دجالون. أما قناة “القاهرة والناس”، التي تحارب الجدل كذلك، فهى تروّج لعلم الفلك وتفسير الأحلام والأبراج، وكلها فقرات ثَابتة في خريطةِ برَامج القناة التي تهاجم، في الوقت ذاته، الدجالين الذين يدّعون القدرة على مُسَاعدتك في اتخاذ القرارات المصيرية وتحديد مُستقبلك.

أما في التلفزيونات المصرية الرسمية، وكذلك معظم القنوات العربية، فخبراء الطاقة الروحانية والبرمجة العصبية، واليوغا، وطاقة الأحجار، والعلاج بالعناصر الطبيعية.. هم أصحاب فقرات ثابتة، يتم تقديمهم بلقب دكتور قبل أسمائهم أو لقب الخبير في السلام النفسي.

لطالما كان اقتصاد وتجارة الميتافيزيقيا، من أكبر الاقتصادات في المنطقة العربية والعالم. ونقصد به بيع وتسليع كل الممارسات ذات الطابع ما وراء الطبيعي، والتى تعتمد على نظريات غير مثبتة علمياً، ورغم أن بعضها مجرب لكن تغيب دائماً العلاقة بين السبب والعلّة. وهي تشمل تجارة الأبراج والتنبؤ بالمستقبل، العلاج الروحانى، العلاج بالقرآن، العلاج بالطاقة، اليوغا، وكل أساليب التحكم بالطاقة غير المرئية والتي لا برهان علمياً على وجودها.

تُشكل الميتافيزيقا عُنصراً أساسياً في ثقَافات شعوب الأرض. وخلال العقود الأخيرة، مع ترسيخ سياسات العولمة وتسليع الثقافة، تحولت الميتافيزيقا إلى وسيلة من وسائل الدخل للأفراد والشعوب.

في الصين والهند، حيث لم تؤدّ الحداثة القائمة على الحقائق الفيزيائية إلى دفن التجَارب الميتافيزيقية، استمر الطب الحديث مع الطب الشعبي. وممارسات مثل التداوي بالأعشاب أو التأمل أو الإرشاد الروحي عبر معلم اليوغا، هي ممارسات علنية تنظمها الدولة وتستفيد منها. وقبل عامين، ضغط رئيس وزراء الهند على الأمم المتحدة، من أجل تخصيص يوم عالمى لليوغا والتأمل الروحانى على الطريقة الهندوسية، وتبنت الحكومة الهندية مَجموعة من السياسات للترويج لكل أشكال الميتافيزيقيا الهندوسية، من اليوغا والتأمل، إلى العلاج بالأعشاب والتداوى ببول البقر المقدس. ليس الغرض من هذه السياسية دعم القوى الناعمة للهند فقط، بل دعم الاقتصاد الهندي كذلك، إذ يُقدّر إجمالي عائدات سوق اليوغا ومنتجاتها، على الاقتصاد الهندي، بحوالى 5.7 مليار دولار أميركي.

دخل الطب الحديث مصر، في عشرينات القرن التاسع عشر، على يد كلوت بك، تطبيقاً لسياسات محمد علي باشا، لرفع عدد سكان القطر المصري ولاستخدامهم في تكوين جيش الباشا، ولزيادة طاقة الأيدي العاملة في أراضيه الزراعية. منذ القرن التاسع عشر، وحتى الآن، تشن مؤسسة الطب التشريحي الحديث، الحرب على الطب البديل، وعلى كل أنواع العلاج الميتافيزيقي الذي لا تنتجه المؤسسة الطبية الغربية الحديثة. ومع ذلك، تنمو مؤسسة العلاج الميتافيزيقي في مصر والعالم العربي، وتعيد خلق نفسها تحت مسميات وأشكال جديدة تناسب كل طبقة إجتماعية.

في أحد المولات التجارية الكبرى، ترتفع لافتة بالانجليزية تشير إلى أن المحل هو مركز بيع منتجات المركز الفلاني المتخصص في العلاج بالطاقة. داخل المحل تُبَاع مَجموعة من الأحجَار والعقود والتمائم بأسعار مُبالغ فيها. قطعة حجر أشبه بأي “زلطة” تجدها في الشارع، تباع بحوالى 750 جنيه (35 دولار أميركي)، ولها استخدامات مُتعددة. فإذا وضعتها أسفل وسادتك قبل النوم، ستقضي على الصداع المزمن والقلق وتمنع الأفكار والطاقة السلبية من الاقتراب منك أثناء نومك. أما تلك الحظاظة غريبة الشكل، والتى يقترب ثمنها من 1500 جنيه (75 دولار أميركى تقريباً)، فهى ستغير من هالة الطاقة المحيطة بك، فتجعلك وسيماً وتجذب الآخرين لك ولشخصيتك. ينظم المركز أيضاً عدداً من الأنشطة لسكان التجمعات السكنية في “6 أكتوبر” و”التجمع الخامس”، ومنها حلقات ذكر صوفي خاصة بعليِّة القوم تقام في فيلا خاصة، وتقدم خلالها الولائم، فتمنحك الفرصة لمعايشة جو حلقات الذكر والتصوف الجميل من دون الحاجة للاختلاط بزحام الأحياء الشعبية أو حضور الموالد والاختلاط بالعامّة.

ينمو اقتصاد الميتافيزيقيا ويزدهر لدى الطبقات الاجتماعية العليا المصرية، ويزداد الإنفاق عليه. في المجال الرياضي، الحديث عن استخدام السحر أصبح شيئاً علنياً. رؤساء الأندية الرياضية يستعينون بسحَرة معروفين بالاسم. وأحد رؤساء الأندية الكبري في مصر، لا يخفي علاقته بساحر يصحبه معه دائماً، ولا يتخذ أي قرار يخص الفريق من دون الرجوع إلى هذا الساحر، حتى أن العاملين في النادي حينما توجد مشكلة مع المدير يلجأون إلى هذا الساحر للتوسط لديه.

في المجال السياسي، ومنذ اللحظة الأولى لظهور السيسي، كانت الأحلام والنبؤات هي وسيلته لتقديم نفسه للصحافيين. والآن مع ازدياد الرقابة على المجال العام، لم يعد أمام المعارضين سوى استخدام الميتافيزيقيا والسحر ضد السيسي. لينقلب السحر على الساحر ويختلط الخيال بالواقع، والروحاني بالجسدي، والسفلي بالعلوي، حينما ظهرت صفحة “فايسبوك” المعروفة بـ”تحت الأرض” واتهمتها الداخلية بالتنبؤ بتفجيرات الكنائس الأخيرة، بل وأعلنت في بيان رسمي ترصدها للقائمين على الصفحة ومراقبتهم والقبض عليهم بسبب استخدامهم السحر السفلي في الإرهاب!

لكن رغم الاعتراف الرسمي والديني بوجود السحر، فكالعادة يدفع الفقراء الثمن. وبينما ينمو ويزدهر اقتصاد السحر والميتافيزيقيا في التلفزيونات الرسمية، وتتعامل معه مؤسسات الدولة كواقع، فإن سحر الفقراء يتم وصمه بالدجل والشعوذة وتتم ملاحقته جنائياً والتعامل معه كسلوك إجرامي. هكذا، أصبح معتاداً أن نشاهد خبيرة الطاقة الروحانية تدلي بحديث صحافي في إحدى الصحف، وفي الصفحة المقابِلة القبض على دجال في حي السيدة زينب يقنع الفقراء بحل مشاكلهم الأُسرية.

ليست الطبقية هي العنصر الوحيد الذي يتحكم في مدى “شرعية” العمل الميتافيزيقي، بحيث يصبح ساحر السيدة زينب دجالاً ومجرماً ومشعوذاً، وخبيرة الطاقة الروحانية في حي المعادي نجمة مجتمع راقية وشخصية عامة في التلفزيون ووسائل الإعلام. فإلى جانب الطبقية، يسيطر شيوخ السلفية على قطاع كبير من الاقتصاد الميتافيزيقي، وسلطتهم عابرة للطبقات الاجتماعية. فمع نمو السلفية الدينية في المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة، ظهر فرع العلاج بالقرآن والطب النبوي. السلفي يعترف بالسحر والميتافيزيقيا، لكنه يستخدم سلاح الحرام والحلال. فقواعد الفقه والشريعة لا تنظم العلاقات في العالم الفيزيائي الطبيعي فحسب، بل كذلك في العالم ما وراء الطبيعي. هناك أعمال ميتافيزيقية مُحرّمة وهناك أعمال ميتافيزيقية مُحللة. وخلال السنوات الأخيرة، تم وصم الكثير من الممارسات الميتافيزيقية والسحرية الشعبية بأنها حرام، بداية من ضرب الودع إلى قراءة الفنجان. وحتى تلك التي وصفها الفقه بأنها حلال، فرض السلفيون نماذج استخدام محددة لها، وفرضوا أنفسهم حصريين كقائمين بالرقية الشرعية والعلاج بالقرآن والعسل وبول الإبل.

أمام هذا العالم والاقتصاد، بل والسياسية الميتافيزيقية الآخذة في النمو والتوحش، حيث السيد ترامب الذي لا يؤمن بالتغيير المناخي، يقف المثقف العلماني المدني، متحصناً بتراث الفيزياء الحديثة، من نيوتن إلى أحمد زويل، مستعيناً بكتب ودراسات علم النفس الحديث كمفتاح وحيد للتواصل مع العالم الميتافيزيقي. ورغم أن علم النفس الحديث يتحرك ويؤسس لنظريته بلا معاينة تشريحية كباقي العلوم الحديثة، لكن سلطان نظرياته يقف في مواجهة السحر والروحانيات والعالم الميتافيزيقي مدعياً أنه العِلم والآخر دجل.

إن أي نقاش علمي في مواجهة الدجل والميتافيزيقيا المحيطة بنا، محكوم عليه بالفشل التام. يكافح العلماني والعربي المستنير، الخرافة والدجل، بكتابة المقالات والظهور في التلفزيون مهاجماً الخرافة. لكن الخرافة لا يمكن أبداً أن تتبدد بالنقاش العقلاني. والطبيعة بقوانينها لا يمكنها هزيمة ما وراء الطبيعة، خصوصاً إذا كان خلف سحابة الخرافات والروحانيات التي تغطى الكوكب، كل هذا الدعم والتمويل والاقتصاد، فتتبدد صيحات المنطق في الفراغ.

http://www.almodon.com/culture/2017/5/3/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D9%88%D8%B0%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF