التصنيفات
مقالات الضيوف

الخليط الشيطاني

يُهيأ لنا فيها أننا قد عرفنا كل الإجابات، قبل أن نكتشف أننا لم نكن نعرف الأسئلة أصلًا.

محمد العُمر كان مهاجر لبناني لكن مش زي أي مهاجر. والده، ممدوح العُمر، كان رجل أعمال ميسور الحال، هاجر لأستراليا في السبعينيات و أسس شركة للمقاولات تُقدر أعمالها بملايين الدولارات، ومحمد ابنه، أو “مُوِي” كما أطلق عليه الأستراليين، كان بطل أستراليا في الملاكمة بوزن الريشة.

في 2014، فوجىء الأستراليين بإن “مُوِي” سافر إلى الشام، وانضم للجماعات المتطرفة التي لا يُقال اسمها علنًا على منصات التواصل، ووجدوا له صور وهو بيمارس أعمالها الدموية المعتادة.

“مُوِي” ماكانش عنده أي سبب يخليه يتجه الاتجاه ده، طبقًا لوالده، هو وأخوه اتربوا تربية إسلامية متسامحة، عمره ما قالهم إنهم لازم يكرهوا غير المسلمين أو يعتدوا عليهم، لكن المشكلة كانت في عمه، محمد علي العمر، اللي قاد “مُوِي” لبطل الحكاية الأول؛ الشيخ فايز محمد.

الشيخ فايز كان أبرز وجوه “المركز الإسلامي العالمي للشباب” في سيدني، واللي بيخليه بطل الحكاية، مش بس إنه كان أول شيخ ذائع الصيت يساهم في تجنيد الشباب للجماعات إياها في هذه البقعة من العالم، تحت أعين الحكومة، والأهم، تحت أعين أهاليهم نفسهم، لكن كمان لأنه كان أول شيخ يعمل كده وبعدين يتوب، ويقرر يشارك الطرق اللي كان بيستخدمها لتجنيد المساكين دول.

أول ما يبهر في حديث الشيخ فايز محمد هو إنه ليس رجل جاهل، ولا يمثل القالب التقليدي لشيوخ التطرف اللي بتشوفهم عادة في الدراما العربية. في الواقع، الشيخ كان عنده علم مش قليل بسيكولوجية الشباب والمراهقين، ومداخل نفسياتهم وذهنياتهم، واستخدم ده بطريقة شيطانية مع “مُوي” وغيره، طريقة عبقرية على بساطتها.

نظرية الشيخ فايز، لو نظرنا ليها بشكل مجرد من القيم الأخلاقية، فهي كانت منطقية وفعّالة تمامًا؛ بشكل عام، أغلب الشباب والمراهقين، وبخاصة الذكور منهم، مهووسين بثنائية الجنس والعنف. هو ده اللي بيشغل تفكيرهم أغلب الوقت. الجنس لأنه دي الفترة اللي بيكتشفوا فيها أجسادهم ورغبتهم في الجنس الآخر، والعنف لأنه أسهل طريقة لإظهار “ذكورتهم” المكتسبة حديثًا، سواء كان عنف لفظي أو جسدي.

لما تضيف لده حقيقة إننا بنتكلم عن شباب عرب مهاجرين، كتير منهم تلقى قدر من التربية الدينية في طفولته زي “مُوي”، وبالتالي بيعاني بشدة في التأقلم على المفاهيم والقواعد الإجتماعية لدول زي أستراليا، وبيشعر بالغبن طول الوقت لأنه شايف أصدقائه وزملائه بيمارسوا حياتهم طبقًا للمفاهيم والقواعد دي، وبالتالي بيحصلوا على كل ما يشبع رغباتهم بينما هو محروم منها، تظهر طبقة جديدة من عبقرية الشيخ فايز في الخطابة.

زود على ده بقى حقيقة إن كتير منهم تعرض للعنصرية أو التمييز بأشكال مختلفة، إما بسبب سمته العربي، أو بسبب اسمه، أو ديانته، ومن ضمن دول “مُوي” نفسه. ساعتها تكتشف إنك قدام مراهق عنده طاقة جنسية وبدنية ضخمة جدًا، لكن في نفس الوقت إيمانه ودينه بيمنعوه من تلبية رغباته وشهواته.

مع الوقت، في تفكيره، يتحول الإيمان نفسه لعبء بدلًا من كونه حصن، عبء بيحسسه إنه معزول ومحروم، عبء مش عايز يتحمله لوحده، خاصة إنه عبء لا يمنحه أي حيثية إجتماعية أو حظوة من أي نوع في بلد زي أستراليا أو بلجيكا أو فرنسا، على عكس الحظوة الإجتماعية اللي بيمنحها الدين لكتير من المتدينين في العالم العربي، بل بالعكس ممكن في أستراليا ده يتسبب في إنه يعاني من العنصرية والتمييز.

الشيخ فايز كان بيجمع الشباب دول في دروسه ويقدملهم نسخته الخاصة من الإسلام؛ النسخة التي لا يتحول فيها الإيمان بالله إلى رغبة في تهذيب الروح وتحمل وطأة الشهوة، بل بالعكس، بيتحول الدين إلى الوسيلة الأهم لتلبية هذه الشهوات، دين ما يحملهمش أي أعباء غير السطحي والقشري منها، وفي نفس الوقت، يطلق العنان لطاقاتهم، الصالح منها والطالح، دين بيمزج أسوأ رغباتهم في خليط شيطاني بيقولهم إن هوسهم الأول -الجنس- مستنيهم، وأفضل بكتير من اللي كانوا بيحلموا بيه في الدنيا، والطريق اللي حيوصلهم ليه هو، للمفاجأة، هوسهم التاني؛ العنف.

خلطة سحرية، كأنك رحت لواحد مأزوم في قرشين وشرعّتله السرقة، وقيفت الدين، اللي هو مجموعة المعاني والمفاهيم الأخلاقية اللي المفروض بتمنعه من السرقة، على عكس معناها، فأصبحت هي اللي بتخضع لهواه ومزاجه، مش العكس.

اتدرب، اتشحن، حارب، خد سبايا، ولو حصل الأسوأ و”استشهدت”، مش حيكون الأسوأ ولا حاجة، بالعكس، حيكون منتظرك أجمل وأروع منهم في الجنة مقابل “استشهادك”. كل مشاكلك حلها موجود وبسيط وسهل، مش محتاج تكبت أي شهوة أو رغبة، مش محتاج تتحكم في نفسك بأي شكل، بالعكس، محتاج تطلق نفسك بلا قيود، تعمل كل اللي نفسك فيه، ومش بس مش حتبقى مذنب أو عاصي، ده إنت حتبقى بتجاهد في سبيل الله.

كل ده متوافق جدًا مع المرحلة العمرية دي، المراهقة وبداية الشباب، لأنها المرحلة اللي بتبدأ فيها شخصية الإنسان تتكون، ويبدأ فيها استقلاله عن أسرته الحاضنة، ويبدأ فيها يكون قناعاته الأولى، اللي غالبًا ما بتكون شديدة السطحية لقلة خبرته، ومع الوقت يتكون عنده يقين زائف بإن الحياة سهلة، والحلول متوفرة لكل المشاكل، من أول انخفاض قيمة العملة لحد تحرير الأقصى، وإن المشكلة الوحيدة هي إن باقي الناس متقاعسة ومُفرّطة، أو خايفة وجبانة، مش زيه، ومع التطرف المضاد، وتصدر الإمعات والجهلة للمشهد، بيلاقي تبرير لأنه يتحول لقوة معاكسة.

أحد الأطباء النفسيين كان بيوصف المرحلة دي من حياة الإنسان، مرحلة المراهقة وبداية الشباب، وصف عبقري؛ كان بيقول إنها الفترة التي يُهيأ لنا فيها أننا قد عرفنا كل الإجابات، قبل أن نكتشف أننا لم نكن نعرف الأسئلة أصلًا.

يقين مزيف مبني على معرفة هشة وسطحية بالعالم، مع اندفاع وحماس غير عادي، وفي لحظة يتحول العالم إلى معادلات صفرية لا مجال فيها للمساومة، لأن شهوة الجنس وشهوة العنف والرغبة في إثبات الأحقية والجدارة هم في الحقيقة عبء تقيل، بيحط الإنسان نفسه في معادلة صفرية؛ إما التحقق التام أو الاستسلام التام، وبالتالي بيتطلبوا من الإنسان حلول مختصرة مباشرة لأعقد المشاكل، وهو ده بالظبط اللي كان بيقدمه الشيخ فايز قبل ما ربنا يتوب عليه؛ معركة لحظية آنية بتوعد بمكافأة ضخمة في المستقبل القريب؛ دماء جاهزة للسفك بدون تأنيب للضمير، وسبايا وجواري تحكمهم زي الملك، وحور عين مستنيين في الجنة لما “تستشهد”.

الخليط الشيطاني ده يكاد يكون مستحيل المقاومة؛ شاب مهمش بيجاهد للإلتزام بتعاليم دينه وبيعيش في بيئة معادية ليه ثقافيًا، هرب لها نتيجة قهر سياسي أو إجتماعي في بلده، فجأة بتقوله إن في منفذ لكل الغضب اللي جواه، ومنفذ متوفر دلوقتي حالًا، والمنفذ ده كمان حيلبّي كل شهواته التانية وعلى رأسها الجنس، بتقوله إن في معركة ممكن يدخلها دلوقتي، يختصر فيها كل العراقيل والعوائق والطرق التقليدية؛ مش محتاج يتعلم، مش محتاج يبتكر، مش محتاج يخترع، مش محتاج يقرأ أو يتثقف، مش محتاج حتى يشتغل، الحرب هي شغلته، ومكاسبها من السبايا والغنائم هي مرتبه.

الشيخ فايز بيحكي إنه كان بيقدر يستهدف الشباب دول بمنتهى السهولة، وكان بيتعمد إنه كل فترة والتانية يستميل نموذج زي “مُوي”، رياضي ناجح ومثال بيبصله الشباب المهاجرين باعتباره نجح في الحصول على التقدير والاعتراف المجتمعي اللي بيدوروا عليه، مع استحضار لسردية المسلم المؤمن الذي تفوق على الغربيين في بلادهم، واللي هي بالأساس، للمفارقة، سردية أميركية.

عشان كده دايمًا العنف بأنواعه، سواء كان لفظي أو جسدي، زي المتفشي في مجتمعاتنا حاليًا بدرجة غير مسبوقة، حيكون ليه جمهور كبير مادام في شيوخ بتلاقي له تخريجات وتبريرات، لأنه أخطر الرسائل على الإطلاق هي الرسائل التي تخاطب نوازع الكسل والاستسلام عند البشر، الرسائل اللي بتقولهم إنتو تمام يا جماعة، اللي بتعملوه صح، خليكم على حالكم مش محتاجين تغيروا حاجة، العالم هو اللي محتاج يتغير لوحده، ومش حيتغير إلا إذا أجبر قسرًا على التغيير، وعلى فكرة بقى، الدين مش بيقولكم إنكم تكظموا غيظكم، أو تصفحوا، أو تمتنعوا عن البذاءة، لا بالعكس، اشتم فلان وخوض في عرض علان واعتدي على ترتان، أصلهم ظلموك، ولا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم، بالتالي كل ده حلال، قُبح القول والفعل حلال لأن الشيخ بيعمل كده، وأنا أكيد مش أحسن منه، خاصة لما كل ده يكون بيتم على خلفية معركة ما، برضه معركة لحظية آنية تضمن لأتباع الشيخ مكاسب لحظية، حتى لو كانت مكاسب معنوية وانتصارات افتراضية على منصات التواصل، المهم إن المعركة تفضل شغالة، لأنه فعليًا هو ده اللي بيجذب هؤلاء الشباب وبيحسسهم بإن في مخرج للغضب اللي جواهم، والمهم كمان إن طاعاتهم وإيمانهم يتيح لهم التعالي على غيرهم، والتكبر بالطاعات دي، والإحساس بالقيمة والأهمية كمكافأة على التضحية وتجنب الحرام، لأنه بدون كل ده، من وجهة نظر كتير منهم، حتكون مجرد عبء ومسئولية بدون مقابل دنيوي مادي، وبالتالي بيتحول الإيمان إلى ضريبة لازم يدفعها المجتمع، وكأن المؤمن بيعمل للمجتمع خدمة، مش لنفسه.

من فترة نشرت واحدة من التغريدات لواحد من هؤلاء المتدينين الجدد، بينصح فيها شخص بيسخر من أحد الشيوخ بإنه يغطي مؤخرته أو يحطها في مكان ضِل عشان ما تحرقوش، والتعليقات المعترضة كانت على نفس المنوال، وفي واحدة من النقاشات الفضولية مع أحد المعلقين، وصف نفس الشخص بإنه “ابن زانية”، وإن التغريدة كان لازم تبقى أعنف وأشد لأن هو ده اللي يستحقه، واستشهد بآية الجهر بالسوء من القول، فلما قلتله إن تفسير الآية طبقًا لقول ابن عباس بيتكلم عن إنك تدعو الله على من ظلمك، وإنه يجب أن يكون دعاءك على قدر المظلمة، فلا يجوز مثلًا إنه يكون ظلمك بسرقة مالك فتدعو عليه بأن يفقد بصره، وإن باقي الآية بيقول وإن صبر فهو خير له، إلى آخره من الأسانيد البديهية في مسألة زي دي ممكن أي حد يوصلها بضغطتين على جوجل، كان الرد السيريالي:”وإنت عايزه يقول كذا وأنا أقوله ربنا يسامحك؟”

دي اللحظة اللي بيتحول فيها الدين لمجرد خادم لرغباتنا وشهواتنا ومن ضمنها العنف اللفظي، ولما بييجي نص صريح يفيد بخيرية الصبر أو الصفح أو كظم الغيظ، نحمرق ونقول لا مش لاعبين، لأنه بالأساس المرجعية عمرها ما كانت الدين، المرجعية كانت كيفية تطويع الدين عشان يناسب اللي إحنا عايزين نعمله، إزاي يبقى كل دور الدين إنه يزيل شعورنا بالذنب أو تأنيب الضمير فقط لا غير.

دي المفارقة المضحكة في كل ده، إن هؤلاء المتدينين الجدد دائمًا ما بيتهموا خصومهم بإنهم عايزين يجتزأوا الدين، وياخدوا منه اللي بيحقق مصالحهم وبس، ويطوعوه لخدمتهم، وكتير منهم بيعملوا كده فعلًا، لكن في الحقيقة ده نفس اللي بيعمله كتير من المتدينين الجدد دلوقتي برضه بمجرد ما تقولهم إن الجهر بالسوء لا يعني إنك تسب أو تتنمر أو تخوض في العرض أو تقذف محصنة غافلة، لأنه كده بتزيل المتعة والإثارة اللي في الموضوع من وجهة نظره، لأن الالتزام بالتعاليم المشابهة معناه إنه مش حيقدر يحرق ويشيّط ويدشمل ويقصف جبهات ويشبع شهوة العنف اللفظي، وساعتها حيبقى “الدين” ممل جدًا بالنسبة له، بيكبته بدل ما يحرر رغباته.

نفس اللي كان بيعمله الشيخ فايز بالظبط ولكن على مقياس أصغر وفي سياقات مختلفة.

المصدر