التصنيفات
افيون الشعوب

إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة

فمقصود الحديث ليس العمل لمجرد العمل، بل معناه العمل بلا يأس من المستقبل، ولا انتظار لغيبيات طويت عنّا، ولا انقطاع أمل في حياة تستمر وتعمر.


كتبت منذ يومين أن اللحظة التي تشعر فيها بأن الأمور خرجت عن سيطرتك وقدرتك وعملك هي لحظة التسليم والراحة..
فعلق قاريء كريم بأن هذا كلام فارغ يعارض حديث النبي صلى الله عليه وسلم” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”.
وهذا ملحظ دقيق منه نبهني إلى ضرورة توضيح ما قد يختلف معي فيه البعض..
فأنا أؤمن أن ديني لم يُكلفني بالعمل لمجرد العمل، فليست حركات اليد عبثا من الفعل لا أبالي به ولا أنتظر منه أي فائدة…
بل من الأعمال ما خُلقتُ لأجله وهو العبادة، فمادمت حيا فأنا مُكلّف بالعبادة، بل أزيد وأقول، حتى لو علمت أن عبادتي غير مقبولة فينبغي علي أن أستمر في العبادة لأنها وظيفتي التي خُلقت لأجلها – وهذا فرع من إيماني بدين – وهي – أي العبادة- ليست بالضرورة ذات فائدة دنيوية مباشرة تعود علي.
ومن الأعمال ما لا يُطلب لذاته، بل لغيره، فإنقاذ مريض بإنعاش القلب بالكهرباء مثلا مطلوب لإبقاءه حيا، فإن تحققنا وفاته فلا معنى لاستمراري في محاولة الإنقاذ من باب أني مطالب بالعمل!
وفي المعارك الحربية قد يختار القائد البصير الانسحاب أو الاستسلام حفظا لأرواح العباد عندما يرى أن كل أمارات الهزيمة محققة، ولا يقال يستمر في القتال حتى ولو أدى لإفناء جميع أهل البلد، وليس كلامي بالطبع عن الحالات الفدائية التي يستبسل فيها الجنود لتأخير الهزيمة أو لأسباب أخرى، ولكن اختيار التوقف عن العمل يحتاج إلى حكمة لا تقل عن حكمة الإقدام على العمل!
فبالتالي تصور أن الإسلام يحثني على العمل لمجرد العمل – في غير باب العبادات التي هي أمر غيبي أصلا- هو تصور لا أفهمه ولا أستسيغه وأراه أقرب إلى العبث الشديد.
ولكن مشكلة الإنسان أنه قد يدب إلى قلبه اليأس سريعا من المستقبل، ولا سيما مع شعوره بتغير الزمان ويأسه من الحياة.
هنا يأتي هذا الحديث “إذا قامت الساعة….إلخ” ليخرج الإنسان من يأسه المرتبط بالمستقبل – الذي هو غيب – فيخبره أن يستمر في عمله، فربما لا يكون ما يظنه!
وفي أزمنة الكوارث والحروب ما أكثر ما يتناقل الناس فكرة قرب الساعة وقرب خروج المهدي وعلامات آخر الزمان…إلخ!
في مثل هذه الأحوال يأتي هذا الحديث ليحثنا على استمرارنا في العمل ما دام الحاضر مرجوا، وألا نخاف من مستقبل غيبي ليس في يدنا وربما يتأخر.
لهذا أعقب الإمام البخاري الذي روى حديث الفسيلة هذا في كتابه “الأدب المفرد” – وهو غير كتابه “الجامع الصحيح” المشهور- أعقبه بأثر آخر كالمفسّر له عن سيدنا عبد الله بن سلام – وهو من فقهاء الصحابة الكبار وأحد الأربعة الذين أوصى سيدنا معاذ بصحبتهم للتعلم منهم – ومضمون هذا الأثر أنه قال ” إن سمعت بالدجّال قد خرج، وأنت على وديّة -أي نخلة صغيرة- تغرسها، فلا تعجل أن تُصلحها، فإن للناس بعد ذلك عيشا”.
هكذا فهم الصحابة حديث الفسيلة، أن المقصود عدم اليأس من المستقبل أو التعلق بأمور غيبية لا يعلمها إلا الله.
فحديث الفسيلة خرج مخرج المجاز والمقاربة والمقصود فيه: إذا ظننتم أن الساعة ستقوم غدا فلا تتوقفوا عن العمل، فهذه الأمور الغيبية لا شأن لكم بها، وإلا فكيف بعاقل يقرأ قوله تعالى “يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا” أن يفهم أن كلمة “إذا قامت الساعة” في الحديث على ظاهرها، وهل إذا كانت على ظاهرها يكون لعاقل عقل يغرس به فسيلة! وإنما ذلك كناية عن شدة المقاربة ودنو الزمان كما وقع في قوله تعالى” أتي أمر الله” ..
فمقصود الحديث ليس العمل لمجرد العمل، بل معناه العمل بلا يأس من المستقبل، ولا انتظار لغيبيات طويت عنّا، ولا انقطاع أمل في حياة تستمر وتعمر.

https://www.facebook.com/Alaa.m.abdelhameed/posts/4207283219297579