التصنيفات
مقالات الضيوف

نقد حرب كرموز – بين النجاح والقيمة

يصحو البطل الذي تشي كل تفصيلة فيه بذكورة متفجرة، من شارب كث وعروق نافرة وشعيرات تتناثر من صدره المفتوح، يوزع عددًا معتبرًا من الصفعات المهينة على شقيقتيه كنوع من الدعابة واللطافة، تشتكي إحداهن “أنا كبرت على التلطيش ده يا يوسف” فيكافئها بصفعة أخرى من باب المحبة.

يخرج البطل من منزله لينقذ شرف الوطن ويدفع عاهرة للتوبة والتطهر، يضحي بعشرات الأرواح في سبيل تصوّره الساذج عن البطولة، ثم يعود في نهاية اليوم راضيًا عن حصاد يومه من الرجولة والشهامة والوطنية والأخلاق، ومعه تتصاعد الأرباح في شباك التذاكر مكللة بأوصاف نوعية “أجمل فيلم مصري شاهدته في حياتي”، الطريف فيها كونها تأتي من أشخاص ربما لم يشاهدوا فيلمًا حقيقيًا من قبل، لإنهم إن فعلوا لما كان من الممكن أن يصدر منهم هذا الاجتراء في حق فن السينما.

مبالغة ترد على مبالغة؟ ربما، لكنها تبقى أمورًا لا تُذكر مقارنة بالفيلم نفسه، بـ”حرب كرموز” التي يظن صنّاعها الآن في الأغلب أنهم أتوا بما لم يستطعه الأوائل؛ فكل ما في الفيلم يعطي هذا الانطباع الهزلي بأن المخرج بيتر ميمي يصدق ما يفعله حقًا، وأن النجاح المتكرر ـ الذي لا يمكن نكرانه ـ قد نقله من حيز اقتباس ـ أو سرقة ـ أكثر الأفكار شهرة وإعادة تعليبها في شكلٍ شعبي، إلى الإيمان حقًا بأن حشد هذا القدر من الأفكار النمطية والمواقف المكررة والصياغات السينمائية الرخيصة يمكنه أن يُنتج فعلًا فيلمًا يمكن أخذه على محمل الجد.

ما يجب التأكيد عليه ونحن بصدد التعرض لفيلم هو الأنجح في الموسم الحالي، وربما يستمر ليصير الأنجح خلال عام 2018 بأكمله، هو أن النجاح والقيمة أمران مختلفان لا يرتبط أحدهما بالآخر تلقائيًا، قد يلتقيان فينجح فيلم متميز أو يفشل فيلم ضعيف، لكن النجاح وحده لا يعني شيئًا، بل إن القسوة تغدو أكثر حتمية في حالة النجاح، على الأقل رغبةً التساؤل حول الأسباب التي تجعل جمهور السينما ـ وأغلبه من الشباب ـ يحتفي بعمل اجتمعت فيه الصور القياسية لكل ما يجعل الفيلم السينمائي ركيكًا، شكلًا وتفاصيلًا ومضمونًا.

تهافت الشكل.. أو السماء تستجيب للدعوات أحيانًا
حرب كرموز

في أحد المشاهد المفصلية (والملحمية) في “حرب كرموز” يشعر الضابط المحاصر يوسف المصري ومن معه بالضعف والهوان أمام حصار الجنود البريطانيين، فيبدأ أحدهم يتوجه بالدعاء لله، وتتصاعد الدعوات تباعًا متحولة لهتاف “يارب” يمتزج مع كريشندو متصاعد لموسيقى فيلم “دنكرك” التي يسرقها صناع “كرموز” بلا خجل ويستخدمونها في كل لحظة من لحظات فيلمهم تقريبًا. يستمر التصاعد الحماسي حتى تأتي استجابة السماء في صورة أمطار غزيرة تنهمر دون مقدمات.

لا يختلف الحدث السابق في تصميمه وتنفيذه عما كانت عليه السينما المصرية قبل عقود، عندما كان الممثل الوغد يخدع البطلة البريئة ويسلبها شرفها فتهطل الأمطار ويتحطم زجاج النافذة. استخدام ربما كان مستحدثًا في أول مرة قبل أن يتحول مع لجاجة الاستخدام إلى “كليشيه”، حسب التعبير المعروف والمأخوذ من الكلمة الفرنسية التي تصف قوالب صك العملات وحروف المطابع، مجرد صورة نمطية مكررة فقدت بسبب التكرار المبتذل حيويتها وطرافتها وقدرتها على الإثارة.

يمكن أن نقيس على المشهد والوصف السابقين كل شيء في “حرب كرموز” تقريبًا: بناء شخصية البطل الشريف القوي الشجاع الخالي ولو من عيب أو نقطة ضعف، الشخصيات الملونة بالأبيض والأسود والمرسومة على قوالب محفوظة، التعبير عن المشاعر بالمونولوجات الطويلة التي تصف المشاعر وتضيف عليها الحكمة أو الوعظ، الاستخدام المفرط للموسيقى بطول شريط الفيلم كاملًا، الانقلابات الميلودرامية في مواقف الشخصيات (النصاب الذي يتحول وطنيًا في لحظة)، وفيما نعرفه عنها (المجرم الخطر الذي لا يحادثه البطل نكتشف إنه من قام بتربيته)، وغيرها من عناصر الشكل التي تجعل الناتج النهائي هو أكبر “كليشيه” شهدته السينما المصرية في القرن الحادي والعشرين.

المدهش هو تفاعل الجمهور الإيجابي مع كل ما سبق. المشاهدون تأثروا بالفعل بهطول الأمطار، بل ونزلت دموع بعضهم مع مقتل صديق البطل الذي يعرف الجميع ـ وفقًا لتقاليد الكليشيه ـ إنه سيكون أحد أوائل الضحايا، وصفقوا عندما مزقت العاهرة ـ دون سبب مقنع ـ تصريح عملها انتصارًا للفضيلة. وكأنه في عالم تغيرت فيه علاقة الجميع بوسائل الإعلام وسادت النزعات الساخرة من أي شيء وكل شيء، أخذ جمهور السينما في مصر خطوة عكسية عسيرة على التفسير، حتى أن “اللمبي” الذي هاجمه الجميع وقت نجاحه مطلع القرن، يبدو ـ بمقاييس الحداثة ـ عملًا طليعيًا بالمقارنة بـ “حرب كرموز”!

سذاجة التفاصيل.. أو جيش بلا عائلات
حرب كرموز

نجاح الفيلم إذن ظاهرة اجتماعية وثقافية يمكن دراستها، بما يسمح بالخروج من حيز الشريط الفيلمي قليلًا لرصد ما ذكره المخرج والمؤلف بيتر ميمي من كونه قد “شاهد 15 ساعة من الأفلام التسجيلية و1200 صورة قديمة وقرأ خمسة كتب” كي يتمكن من كتابة السيناريو! ميمي يقول هذه الأرقام بجدية من باب الفخر بما فعله، ضاربًا المنطق في مقتل؛ لأنه عندما يرتكن رجل قام بكتابة وإخراج فيلم ينتمي بشكل ما للدراما التاريخية أو دراما الملابس Costume Drama إلى هذا الكم الهزيل من المراجع، فالنتيجة لا بد وأن تأتي على قد الجهد: مبتسرة وساذجة.

يكفي أننا من بداية الفيلم ونهايته لا نعرف تحديدًا الفترة التي تدور فيها الأحداث، والتي ينبغي ـ حسب محتوى الفيلم ـ أن تكون بين انتهاء الحرب العالمية الثانية في 1945 وقرار إلغاء البغاء عام 1949، لكننا رغم ذلك نسمع الشخصيات تتحدث عن ملكة بريطانيا التي لم تتول الحكم إلا مطلع 1952 بعد وفاة والدها الملك جورج السادس، والذي يُذكر بدوره مرة أخرى بما يوحي أن كل صناع الفيلم لم يهتموا بطرح نوعية الأسئلة هذه من الأساس.

للتدليل على قدر عدم الاكتراث بالتفاصيل الذي صُنع به الفيلم يمكننا فقط أن نذكر أسماء الشخصيات البريطانية الأربع التي ظهرت في الفيلم، والتي قمت بتدوينها خلال المشاهدة لطرافتها: آدم فرانك، جاك ويليام، ستيفن صامويل، ومارك سام. أربعة رجال لا يمتلك أحدهم لقبًا أو عائلة، تصرخ اسمائهم بالادعاء والاستسهال (نظرة على أسماء مديري أي شركة بريطانية عبر موقعها الإلكتروني كانت لتؤدي المهمة)، تمامًا مثلما تشي الملابس والأسلحة والمصطلحات اللغوية وكل شيء آخر بأنه ربما لم يكن من الضروري أن يذكر المخرج حجم مراجعه، لأنه الفيلم وحده كاف لتقديرها.

الأمر يتعارض مع حجم المال والجهد الذي تم استثماره في إنتاج الفيلم، فهو بالفعل عمل مُكلف كبير الميزانية مدجج بالنجوم، لكن لماذا تُنفق هذه المبالغ الضخمة بسخاء بدون تدقيق يبرر إنفاقها؟ وما قيمة الرجوع في الزمن أصلًا إذا كان كل الغرض هو نصب خناقة كبيرة يُمكن أن تُنصب ـ مع قليل من التعديلات ـ في أي زمن آخر؟

الإجابة هي عدم الاكتراث. صناع الفيلم لا تهمه الدقة التاريخية أساسًا، ولا الانضباط الدرامي، ولا أي قيمة أخرى بخلاف حشد القدر الأكبر من مشاهد القتال والحركة (وبعضها هزلي كأن يلعب مصطفى خاطر بجسده الممتلئ دور لص يدعى عصفور موهبته هي القفز بين أسطح البنايات) والعبارات التي لا تفوق ضحالتها سوى ادعائها الحكمة، لأن هذا ما يزيد من سخونة الفيلم بالنسبة لجمهور الشباك، وهو ما لا يمكن أن ننكر نجاح “حرب كرموز” في بلوغه.

كاريكاتورية المضمون.. أو المصريون الشرفاء دون استثناء
حرب كرموز

هذا النجاح يعيدنا للنقطة التي بدأنا بها: تصور بيتر ميمي ومن معه عن مفاهيم الوطنية والشرف والشهامة والأخلاق، وغيرها من حزمة “الكيتشات الكبرى” التي يروجها الفيلم من أول إلى آخر ثوانيه. بالطبع نحن مع حرية الفنان في الاقتناع والتعبير، ولا نفترض في الأفلام إنها تقدم دروسًا أو تكرس لقيم أو تعيد تربية من لم تربِهم أسرهم، لكننا في الوقت نفسه نشاهد ونسائل ما يقدمه الفنان طواعية من أفكار.

عندما يبدأ الفيلم برجل يقوم بـ”تلطيش” شقيقاته من باب المحبة فليس في إمكاننا سوى التعبير عن الامتعاض، وعندما يكرس الفيلم لقيام ضابط بمخالفة الأوامر وتعريض حياة العشرات للخطر ـ بعضهم يموت بالفعل ـ من أجل مفهومه الخاص عن الرجولة والشهامة، فهذا أمر خطير ينبغي مجددًا أن نرصده، وعندما يقدم عمل درامي المصريين باعتبارهم شعب من الأنبياء، حتى من يخطئ منه سرعان ما يستعيد صوابه، في مقابل شيطنة كل ما هو أجنبي فإبداء الانزعاج أمر منطقي لا يتعارض من الإيمان بحرية التعبير.

الأمر يتجاوز هنا مشكلات الطرح الاجتماعي والأخلاقي إلى دراما الفيلم نفسه، فليست المشكلة فحسب في تماشي نبرة الفيلم مع نزعات ذكورية وشوفينية تدعم ممارسة العنف ضد المرأة وتزكي نظريات المؤامرة وتزيد من متاعب أي أجنبي في شوارع بلد يعتمد بشكلٍ كبير على السياحة (فهذه افتراضات تمنح الفيلم أكبر من حجمه في الحقيقة)، ولكن في قدرة هذا التصور الكاريكاتوري عن العالم على قتل الدراما قبل أن تبدأ.

العاهرة تتوب من اللحظة الأولى، والوصف هنا دقيق لا يأتي على سبيل المبالغة، فالدور الذي لعبته غادة عبد الرازق ينقلب بعد مالا يزيد عن عشر دقائق من الفيلم لتصير صاحبته مثالًا للشرف تحاضرنا عن الأخلاق وعن ماضيها الذي خجلت وتخلصت منه بمجرد أن رأت فتاة مغتصبة، بما يطرح الأسئلة حول السنوات التي مارست فيها مهنتها وما خلفيات النساء اللاتي عملن معها خلالها؟ لكنه مجددًا سؤال أبعد من تصورات صناع الفيلم عن الشخصية الدرامية وماضيها.

البرلماني المتعاون مع الإنجليز، السمسار الذي يبيع كل شيء من أجل المال، الضابط الملتزم بالتعليمات غير الراغب في تعريض نفسه لكارثة، جميعهم ينقلبون تباعًا إلى وطنيين أخيار يتطهرون من خطاياهم استجابة لنداء البلاد التي عاشوا حياتهم وهي محتلة فاختاروا الفساد قبل أن يوقظ الضابط يوسف المصري ضمائرهم!

لا يختلف ما يطرحه “حرب كرموز” في هذا الصدد عما قدمه المخرج سمير سيف في “شوارع من نار” قبل 34 سنة، حين تحوّل القواد والعاهرة أبطالًا وطنيين. لكن الفارق يمكن في أن صناع الفيلم القديم تمكنوا على الأقل من رسم دراما ذات أطياف، فيها الفاسد الذي يظل للنهاية راغبًا في المكسب الشخصي، وفيها يتعرض الأبطال لمحن تدفعهم للتساؤل والشك والانتكاس قبل الاستفاقة وتغيير المسار، وهذا مسار درامي منطقي لم يرغب صناع فيلم الأرقام القياسية من خوضه، فالأبدى هو تبادل اللكمات وتطاير الرصاصات، ورفع الشعارات الشعبوية وتكريس قيمها عبر شخصيات كارتونية، والأهم هو نجاح الفيلم في “غزو العالم” لا “تغييره”. ويالها من مفارقة بين فيلم يواجه ابطاله الاحتلال ويحلم صناعه بالغزو!

https://www.filfan.com/news/details/86406#