التصنيفات
مقالات الضيوف

لا يَمَسهُ إِلا المُطهرُون؟!

لا يَمَسهُ إِلا المُطهرُون؟!

من زمان وأنا أبحث عن ترجمة معينة لمعاني القرآن إلى الإنجليزية حتى أكمل المجموعة التي لدي! وفي الجولة الإسبوعية على مكتبات بروكسل وجدت الترجمة المنشودة فقلت للموظفة: “ناولني نسخة لو سمحتي من الترجمة الإنجليزية الموجودة في الرف الخامس من أعلى”. جملة عادية ظننت أنها لن تسبب مشكلة لإنسان عاقل، ولكنها قالت لي: “للأسف لا أقدر” ونادت بائعا شابا ليناولني النسخة ولكنه قال: وأنا للأسف مش على وضوء وكما تعرف “لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ”. طبعاً أنا برقت من الدهشة وقلت للشاب: “هذا في حالة التعبد فقط”. فلم يفهم فبدأت أرتب أفكاري الفقهية حتى أقنعه بأن لا ضرر في لمس المصحف على غير طهارة لأن الأمر ليس على إطلاقه. ولكنه قال لي: “لو كنت حضرتك على طهارة ها هو السلم وتعال هاته”. فقلت لنفسي: “هاته واخلص ومتعملشي فيها مفتي على أخر الزمن”. وأحضرت بالفعل نسخة مغلفة ونزلت. وبينما أدفع الثمن، أو الهبة كما يحب البعض أن يقول، حاولت مرة أخرى أن أفتح مع الشاب حوارا حول الموضوع فقلت له: “من الأخطاء الشائعة جدا بين المسلمين القول بعدم جواز مس المصحف على غير طهارة. يقال هذا للحائض والجنب ومن أحدث مع أنه كما سبق أمر خاطيء حسب ظني بالطبع” وهنا الرجل بدأ يظن بي الظنون وسألني إذا كنت مسلما؟ فقلت الحمد لله وسكت لأنني لم اكن قد دفعت بعد. ثم جاء زبائن أخرين وضاعت فرصة إقناع الشاب وتقمص دور المفتي، ولكنها – أي الفرصة – لم تضع هنا خاصة وأنني رتبت أفكاري ووثقتها.

ورأيي أن سبب هذا الخطأ الشائع هو الخطأ في فهم آيات سورة الواقعة التي تقول: “إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ” (الواقعة، 77 – 79) حيث يظن الجميع بأن “الكتاب المكنون” المقصود هنا هو المصحف العثماني الذي بأيدي الناس، وهذا بالطبع خطأ تاريخي. بداية لأن سورة الواقعة مكية أي نزلت قبل الهجرة بينما لم يجمع القرآن في مصحف إلا في عهد أبي بكر (رض)، وكانت نسخة واحدة ظلت عنده – كوثيقة – حتى مات سنة 13 هـ. ثم بقيت النسخة / الوثيقة عند عمر بن الخطاب حتى وفاته سنة 24هـ حيث انتقلت إلى ابنته السيدة حفصة (رض) حتى طلبها عثمان منتصف خلافته تقريبا لنسخها وتعميمها وجمع المسلمين عليها. هنا فقط أصبح لدينا ما يسمى تاريخيا “المصحف الإمام” أي مصحف عثمان بن عفان (رض). وكان هذا كما ترى بعد نزول سورة الواقعة بحوالي أربعين سنة. فالقول بأن “الكتاب المكنون” المذكور في سورة الوقعة هو نفسه المصحف الذي جمعه عثمان أمر خاطيء كما ترى!
وهنا يمكن أن نرجع إلى التفاسير القديمة، مثل تفسير عبدالله بن عباس وغيره، لنفهم معنى “الكتاب المكنون” ولإيجاد حل لهذه المشكلة التفسيرية. فعبدالله بن عباس عندما تعرض لتفسير الآيات التي تتحدث عن نزول القرآن وهي: “إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ” (القدر، آية 1). و”إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ” (الدخان، 3). “شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ” (البقرة، آية 185) قال: “أنزل الله تعالى القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر، وهي الليلة المباركة في شهر رمضان، إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السّلام مفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، حتى أتمّه” (الطبري: جامع البيان 2/ 144 و 25/ 107 و 30/ 258).
وهنا لابد وأن تلاحظ شيئا مهما أن ابن عباس يتحدث عن أمر غيبي، فإنزال القرآن جملة واحدة للسماء الدنيا أمر غيبي لا يمكن لابن عباس ولا غيره من الصحابة أن يعرفه إلا إذا كان حُدث به من قبل النبي (ص). وهنا يقول السيوطي بأن كل أسانيد هذه الرواية عن ابن عباس صحيحة (الاتقان 1/ 117). وفي مثل هذه الحالة تحديدا يقول أهل الحديث أن قول الصحابي في الأمور الغيبية التي ليست موضع اجتهاد، إذا ثبت، فحكمه حكم الحديث المرفوع، فابن عباس قد فهم هذا التفسير من النبي (ص) ولكنه لم يسوقه مساق الحديث النبوي. ودليل صحة قول ابن عباس أنه لا يناقض القرآن ففي آيات أخرى يتكلم القرآن عن نفسه فيقول: “بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ” (البروج، 21 – 22). ويقول: “وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ” (الزخرف، 3 – 4)
وفي تفسير الطبري (في النسفي والبيضاوي كذلك) أن القرآن مثبت عند الله سبحانه في “اللوح المحفوظ”، وأنه سمّي “أمّ الكتاب” لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب السماوية (الطبري: جامع البيان 25/ 48 و 30/ 140، والنسفي: مدرك التنزيل 4/ 113، والبيضاوي: أنوار التنزيل 2/ 368).
والسؤال هنا وما المقصود إذن بالكتاب المكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون كما في سورة الواقعة؟ لو رجعت للتفاسير القديمة نفسها (على سبيل المثال الطبري: جامع البيان 27/ 203) ستجد مفسرين قدماء يقولون لك أن “الكتاب المكنون” هو نفسه “اللوح المحفوظ” الموجود في السماء العليا. وطبعا هؤلاء أناس لديهم عقول ويفهمون أنك لا يمكن أن تقول على القرآن المكي الذي كان يكتب مفرقا على الجلود والعظم وسعف النخيل أنه كتاب مكنون ببساطة لأنه لم يكن كتابا بعد! فالكتاب المقصود هنا كتاب سماوي غير المصحف الذي سينسخ في عهد عثمان (رض) ولا يمكن اعتبارهما شيئا واحدا. وبناء على هذا فإن المقصود بـ (المطهرون) في الآية كما في الطبري أيضاً هم “الملائكة” وليس أنا وأنت وبقية البشر ولاحظ تركيب كلمة المطهرون لأنه يؤيد هذا القول.
وبناء على هذا فإن لمس المصحف سواء للمسلمين وغير المسلمين الطاهرين منهم وغير الطاهرين أمر لا ضير منه. فلو أختك أو أمك أو زوجتك أو الخادمة تنظف البيت يمكن أن تنقل المصاحف عادي ولا يهم إذا كانت طاهرة أو غير طاهرة. ولو مستشرق، أو مستشرقة، أو رجل، أو امرأة، من أي ديانة أخرى يدرس القرآن لا يمكن أن نمنعه من مسك المصحف بحجة أنه غير طاهر. وكيف سنمنعه أصلا؟! فالأمر غير منطقي وغير ممكن. وكما نعرف فإن الله سبحانه لا يأمر إلا بالممكن والمنطقي. وأنا للحقيقة عندما أدرّس التفسير وأصوله لا أكون دائما على وضوء رغم أنني استعمل المصاحف وبلغات عدة. والله أعلم.

https://www.facebook.com/abdelsalam.heder/posts/1882941065131934