التصنيفات
افيون الشعوب

عن الاستخدام الواسع والمفرط للفظة “شبهات”

لأن إذا كان الإيمان ليس مجرد قضية معرفية، أو وضع شوية أفكار عن العالم والمصير جوة العقل ودمتم، فالسؤال المطروح الآن ودائما وأبدا هو، هل احنا فعلا مؤمنين؟!


لفت نظري في الأيام الأخيرة وعلى إثر بعض الأحداث استعادة الاستخدام الواسع والمفرط للفظة “شبهات”، باعتبار الشبهات هي مجموعة من الإيرادات والمقولات اللي بيكون غرضها زعزعة عقيدة ما، والصراحة ده استحضار غريب، أو أنا اللي تقريبا البيات الشتوي خطفني مش عارف، حيث أن اللفظة ديه بدلالتها بتفترض إننا عايشين في نفس الوضعية بتاعت وليام موير ومبشرين شبه القارة الهندية في القرن التسعتاشر إن لم يكن يعني وضعية الدمشقي والشهرستاني وابن حزم والملل والنحل، والواقع هو إننا مش عايشين الوضعية ديه، وإن الدين ذاته سواء الإسلام أو غير الإسلام هو في وضعية معرفية جديدة بالفعل عن وضعيته في الأيام الخوالي وكذلك وضع الإنسان بالنسبة للدين مش هو وضعه في ذات الأيام

مبدئيا الدين لم يعد وكما كان المؤطر الوحيد أو الأساسي للوجود البشري، ولا السردية الوحيدة المتاحة لتقديم رؤية معرفية وقيمية وجمالية للعالم، بل أصبح مجرد خيار من ضمن خيارات تانية كتير متاحة، ده نظريا طبعا مع وجود سرديات أخرى بتنافس الدين في رؤيته أو بتطرح منظورات خاصة معرفيا وقيميا للعالم، أما عمليا بقى، فالإنسان المعاصر في نمط وجوده مابقاش مضطر أصلا لتبني سردية كاملة عن أي حاجة، وأصبح ممكن جدا إنه ينقل إيمانه من موضوعات كبرى ونقاط مرجعية قصوى ويتمحور بدل منها حوالين أمور أكثر جزئية وظرفية بكتير، مش لازم “يؤمن” بالله أو بمحمد أو ببوذا أو بالمسيح كموضوعات إيمان متعالي ومفارق، ممكن يؤمن بالعلم أو المزيكا أو الرقص أو أي شيء محايث وجزئي، كذلك أصبح بإمكانه تجاهل الأسئلة الأكثر جذرية أصلا بسبب تصاعد المواقف الشكية اللي بتشكك في أي سردية كاملة أيا كان مصدرها، وكذلك المواقف العملية اللي بترفض أصلا جدوى الأسئلة الكلية، مثلا جيم واطسون صاحب تصور اللولب المزدوج بتاع الدي إن إيه لما قال في مذكراته إن أسئلة زي ازاي وليه نشأ العالم أسئلة لا تعنيه أصلا وسؤاله هو فقط تفسير كيفية وجوده في شكله الحالي، لكن النقطة الأولى أو “الأصل” فده سؤال جذري مالوش علاقة بيه، وده موقف كتير من العلماء مثلا اللي مش بيعتبروا العلم بديل للتصور الديني بل بيرفضوا الأسئلة الجذرية أصلا، المواقف المختلفة ديه تجاه الدين وقبله الأسئلة الكبرى مش موجودة في “بلاد برة” بس وإنما هي موجود بيننا في بلاد جوة عادي، والأمثلة على إن الإسلام أو المسيحية مثلا بالنسبة لنا ماباقوش المرجعية العليا ولا الوحيدة للأفراد في مجتماعتنا كتير جدا جدا جدا يعني انظر حولك بصوت عهدي صادق في فيلم الكيف وانت تشوفها مالية الدنيا

وده معناه إن المؤمن أو غير المؤمن الاتنين وضعهم تغير تماما، فالمؤمن هو مؤمن عن اختيار واعي وكذلك غير المؤمن أو الملحد سليل المؤمن زي ما بيسميه إلياد –ومن هنا بيعمل فيديوهات يتكلم وربما يدعو لأفكاره، ما هو سليل المؤمن وموقفه موقف ديني حضرتك- ، ده ما كنش موجود زمان حيث إن الدين كان هو الإطار الكلي غالبا، وعودة لزمن الشبهات الجميل فزنادقة الإسلام مثلا اللي كان بيرد عليهم المتكلمين واللي في رأي بعض الباحثين إيرادتهم على الإسلام كانت أساس تبلور المباحث الكلامية بشكل ناضج، دول ماكانوش ملحدين ولا حاجة، وإنما كانوا متدينين برضه لكن كانوا ربوبيين وعندهم إشكال مع النبوة والكتب، ببساطة الدين في الوضعية الحالية ما بقاش الاختيار الأكبر أو الأول أو الأيسر، بل أصبح الإيمان في العصر الحالي عملية مخاطرة أصلا، لأن مع تزايد مساحات الشك وتجاهل الأسئلة الكبرى أصبحت القفزة اللي على المؤمن القيام بيها بين كل ما يملك من أدلة وبراهين على معتقده وبين المعتقد ده نفسه أكبر من المعتاد وربما أيضا أكبر من المحتمل

وده يودينا للنقطة التانية، وهي ليه حاليا مفيش شبهات أو يعني صعب في الوضعية ديه وجود “الشبهة”؟، قديما كان تعدد المنظورات الكلامية في التراث الإسلامي وارتباطها بقضايا مفردة أحيانا أثارتها أحداث سياسية واجتماعية خاصة أو مباحث فكرية حتمها الاتصال بفلسفات وأديان تانية بحكم التوسع الإسلامي، زي مثلا القدر، المسؤولية عن الأفعال، النبوة، الخلافات المسيحية الإسلامية، وغيرها، هو ده اللي أتاح جدا وجود ما يسمى المقولة والشبهة، لأنها هتكون عملية إيراد “مقولة” محددة تجاه أحد أبعاد الدين مش تجاه الدين أو الموقف الديني كاملا، وهي بتظل “مقولة” لغاية ما يتحدد موقف كلامي تجاها يقدر يعرضها كمجرد “شبهة” أو حتى يقتطعها ليصيغها كشبهة ويرد عليها، ومن هنا كان سهولة الرد عليها، واللي بيتم بشكل أساس بإثبات تنافرها المعرفي مع بقية المسلمات اللي غالبا بيكون المخالف ومورد “المقولة/ الشبهة” مشترك مع اللي هيرد على الشبهة فيها أصلا، والسؤال هل احنا حاليا عايشين نفس الوضعية ديه؟

في كلمة واحدة، بتاتا!
لأن دلوقتي احنا مش بنتكلم عن بعض الأجزاء أو القضايا المفردة مهما كبرت واللي الناس اللي بيظلهم مظلة واحدة -معرفية بالأساس بتشترك بصورة كبيرة في طريقة تصور طبيعة المعرفة وآليات الاستدلال وطرق الحجاج– مختلفين فيها، احنا بنتكلم عن تعدد في المنظورات والمناهج والرؤى، مفيش اتفاق أصلا بين البشر الحالين جوة بلد واحدة في النظر للحقيقة ولا طبيعة المعرفة ولا المناهج ولا آليات الاستدلال، الدنيا للأسف أوسع بكتير من كتاب المغالطات المنطقية وكتب دوكنز وخناقات كارين ارمسترونج ومتألهي ما بعد الحداثة، ومن هنا فرأي الشخص عن الأسئلة الكبرى أو عن الإسلام أو المسيحية أو حتى أديان اليونان القديمة هو مش ممكن يندرج في سياق “الشبهة” اللي فارقناه بالفعل، وإنما هو تصور منغرس في وضعية جديدة خالص للدين وللمتدين وللحقيقة وللمعرفة

كذلك في نقطة أخرى، وهي إن “الشبهة” بتفترض نظرة معينة لطبيعة الإيمان، وهي إن الإيمان أصلا فعل معرفي، وبالتالي فالخروج منه نقص معرفة أو معرفة مغلوطة، وده ورغم إني شخص قليل القطع بالأمور، بس حابب أقول إن ده قطعا أمر غير سليم، والحجاج اللي بيقيمه القرآن أو الإنجيل أو غيرهم من الكتب الدينية مع رافضين الدعوة هو مش مجرد حجاج عقلي، فيه جزء عقلي وبرهاني طبعا، لكن فيه أجزاء رمزية وسردية غير برهانية تماما، فضلا عن ارتكاسها الأساس على الإيمان ب”الغيب” كدلالة على الإيمان الحقيقي، كذلك الكتب ديه مش بتوصف غير المؤمنين بإنهم أغبياء مثلا أو ناقصي المعرفة وخلاص، وإنما تكلمت عن الجحود والحسد والكبرياء والتقليد وعمى القلب وكثرة المعاصي باعتبار كل ديه عوامل لرفض الإيمان، كذلك قصص الإيمان في التقاليد الدينية مش دوما قصص واحد اكتشف المعرفة فجأة فآمن، أظن صعب وصف قصة إيمان عمر مثلا بكده، بما يعني إن الإيمان مش مجرد قضية معرفية، وإنما هو -على الأقل- أكتر من كده شويتين تلاتة، ويمكن فيه آية في التوراة استعادها المسيح في تجربته مع الشيطان فوق الجبل ممكن تفيد في فهم ده، وهي لما طلب الشيطان من المسيح أن يلقي نفسه من فوق الجبل وإن الله سينقذه كما تقول التوارة، رد المسيح “لا تجرب الرب إلهك”، لا تجربه لأنه غير خاضع للتجربة وغير خاضع لأن يستحوذ عليه أي تصور معرفي نظري أو تجريبي، ومهما تم وضع أدلة فسيظل هناك مسافة بين الدال اللي بتمثله البراهين والنظريات وبين المدلول المفارق اللي هو الإله، المسافة ديه هي اللي بتم فيها قفزة الإيمان زي ما بيسميها كريكجارد، وهنا كون الإيمان في جوهره فعل مخاطرة زي ما بيرى تيليش، المسيح لم يلق نفسه من الجبل، لكن بإيمانه ألقى نفسه في المسافة بين العالم وما وراءه، بين التصديق العادي بوجود الشمس أو القمر أو كروية الأرض – أي حاجة عليها دليل دامغ- وبين التصديق الإيماني اللي بيتجاوز ده وبيقوم على افتراض إن ما نراه، ما نعرفه ما نوقن به بالبراهين، مش كل شيء أصلا، ده جوهر الإيمان بالأساس، التطلع وراء ما نعرف، تحويل كل ما ما يقع أمام العين والعقل ل”آية” على شيء متجاوز

وهذا ما يعدينا لبداية الحديث، الإيمان أصلا فعل صعب، وأضحى في وضعيتنا الحالية المعرفية والواقعية أكثر صعوبة بكتير، وهو ده اللي كان دوما وسيظل بيدي الإيمان قوته وأهميته، وبيخليه باب الحرية من كل سجن اعتبره الإنسان وبفعل العادة جنة

طبعا لا أنكر وجود أشخاص سواء مؤمنين أو غير مؤمنين بيتعاملوا مع المسائل على طريقة اقتطاع آية أو اقتطاع رأي من فيلسوف ولا مستشرق وطبخ “شبهة” أو بلورة رأي عتيق كتفنيد لما يفترض إنه”شبهة”، والتطور سقط في الغرب لأ ده الدين هو اللي سقط في الغرب، وعلى سقط في الدراسات وهيام سقطت في الفيزيا، والحديث اتدون مش عارف امتى، والأمويين كتبوا القرآن، كن ده ممكن اعتباره استهلاك فارغ لا يودي ولا يجيب، إنما الأكثر منطقية هو التنبه للوضعية اللي بنعيشها، والأهم التنبه لإيماننا، لأن إذا كان الإيمان ليس مجرد قضية معرفية، أو وضع شوية أفكار عن العالم والمصير جوة العقل ودمتم، فالسؤال المطروح الآن ودائما وأبدا هو، هل احنا فعلا مؤمنين؟!

https://www.facebook.com/tarek.hegi/posts/2710140772412298