التصنيفات
مقالات الضيوف

أن تكون محقًا ودنيئًا في الوقت ذاته

كم من الحقائق لا تقال علنًا لأسباب مفهومة ليست بحاجة إلى شرح، هذا هو الواقع كما حدث فعلًا، ولكن هذا لا ينفي وضاعة الكلام لو صدر.


أهلًا بك. ديسمبر قد حل علينا إن لم تكن قد لاحظت؛ على يمينك تدور المعركة التي يخرج منها الجميع خاسرًا حتى الفائزين منهم، وعلى يسارك يقف المترفعون الذين يصممون أنها لا تعنيهم، رغم أن حفل البالون دور يحرك الرمال أسفل أقدامهم أيضًا، ومهما أكدوا إنهم لا يهتمون فهم سيهتمون في النهاية، ببساطة لأنك تحتاج لدرجة قياسية من التجرد لتتجاهل حدثًا بهذه الضخامة، درجة غير بشرية من التجرد.

أحدهم قد عاد إلى منزله بالغنائم، كل الغنائم في هذه الحالة، والأحاسيس المسيطرة على الأجواء تتنوع ما بين الغبن والفرحة والحقد والإنتشاء، وهذا مفهوم لأن الغنيمة هي كل ما يهم في الحرب، والغنيمة هي كل ما يهم في الحرب لأن الحرب ذاتها ليست مهمة؛ نحن لا نعلم كيف يفوز فيها من يفوز وكيف ينهزم من ينهزم، ولماذا، ولا نعلم سبب قيامها أساسًا، في الواقع نحن لسنا متأكدون إن كانت حرب أصلًا، حتى الحرب لها معايير يمكن القياس عليها.

المفارقة أن حفل البالون دور، ورغم عبثيته، هو حدث مغرق في الفلسفة، لأنه يدفعك للتساؤل عن أصول الأشياء؛ الجائزة في أصلها ليست أكثر من مجرد تمثيل لمفهوم الفوز، تعبير عن أفضليتك على الباقين، عن إعتراف العالم بأحقيتك. الجائزة تعبر عن كل ذلك بإعتباره من المسلمات، ولكنها لم ولن تكون دليلًا على وجوده إن غاب، لن تعني شيئًا إن كانت قطاعات كبيرة من الباقين لا يعنيها أن يحصل عليها من يستحقها.

لماذا نفعلها إذن؟ لأننا نؤمن أنه سيحل وقت ما في المستقبل حيث تختفي كل تلك الشكوك والإتهامات والمؤامرات وتبقى المعلومة الصماء في سجلات التاريخ لتؤكد أن أحدهم يملك عددًا أكبر من الباقين، وحينها لن يهم أي شيء آخر. في كل ديسمبر يعود أحدهم بالغنائم إلى منزله ثم يثير محبوه غيظ الجميع بتذكيرهم أنه سيأتي زمن تُنسى فيه كلماتهم وأن التاريخ لن يكون في صفهم. المشكلة الوحيدة في هذا الزمن الرائع أننا، غالبًا، لن نكون موجودين لنعيشه، ولكننا أذكياء بما يكفي لنقضي حاضرنا في الاستعداد له.

سياط الحقيقة

هذا العام قرر فان دايك منحنا الشيء الوحيد الذي قد يكون أفضل من حرب البالون دور العبثية؛ حرب أخرى لها أول وآخر وأطراف واضحة ليس من ضمنهم صحفيون يعتبرون أن أرنولد هو أفضل لاعب في العالم، بالتالي هي حرب يمكن للجميع الإنخراط فيها من دون أن يبدو سخيفًا، والأهم على الإطلاق؛ أننا نعلم أسبابها، والأهم من الأهم على الإطلاق أن كاتيا أفيرو تعلم أسبابها.

عند سؤاله عن رونالدو الغائب عن الحفل تساءل فان دايك مندهشًا من كون البرتغالي مرشحًا أصلًا، وبعد تحقيقات والدة رونالدو ، السيدة ماريا دولوريس دوس سانتوس أفيرو، في أسباب خسارة ابنها لجائزة العام الماضي، والتي أسفرت عن ضلوع المافيا والقراصنة في الجريمة، وهو ما لم يبدو مقنعًا لبعض المتابعين للمفاجأة، فإن أخته، كاتيا أفيرو، قد قررت أن السبب خلف تصريحات فان دايك هو أنه يعاني حالة مستعصية من الحرقان، لأن الدون نجح في التفوق عليه في أهم مباراتين خلال العام المنصرم؛ نهائي دوري الأمم الأوروبية ونهائي دوري الأبطال.

صحيح أن نهائي دوري الأبطال كان في العام الذي سبقه، وصحيح أنها لم تشاهد هاتين المباراتين غالبًا وإلا لما استشهدت بهما، ولكن عليك أن تعترف أنها جَلدة موفقة بمعايير السوشيال ميديا. هذه الحرب تتفوق على سباق البالون دور بإكتساح، حتى في جودة الجلد. المشكلة الوحيدة هنا أن ما قالته كاتيا أفيرو يبدو كمنشورًا قد يكتبه رونالدو نفسه، ولكن على الرغم ما تحمله هذه المفارقة من معاني إلا أنها ليست بهذه الأهمية، ببساطة لأنك حتى لو كنت من أكبر المتحيزين لابن ماديرا فأنت تعلم أن هذا هو رأيه حتى لو لم يصرح به.

هذا رجل مهووس بنفسه لدرجة مرضية، لن يرى أحدًا في نفس مكانته أبدًا مهما كان الواقع، ولن يعتقد أن هناك من هو أحق منه بالجائزة أبدًا مهما كان أداءه. ربما يكون هذا هو السبب في نجاحه طيلة السنوات الماضية، وربما لا يعيبه كل ذلك من وجهة نظرك، ولكن ما يعنينا هنا أنه عاجز تمامًا عن التشكك في ذاته ومراجعتها أيًا كان الموقف، لا يهم إن كان الهداف أو لو كان أكثر من ساهم في نجاح فريقه أو لو لم يكن أيًا من ذلك، هو الأفضل وسيظل الأفضل لأنه هو وهو لا يحتاج لأية أسباب أخرى. مثال نموذجي للنرجسية كما تصفها كتب الطب النفسي.

إجلد الدون

بالمناسبة، هذه ليست محاولة ماكرة للتهرب من فعلة فان دايك، لسبب بسيط جدًا هو أننا سنخبرك بوضوح ومباشرة وبلا مواربة أن ما قاله الهولندي صحيح 100%. رونالدو لم يكن منافسًا منطقيًا على البالون دور هذا العام.

ستقول لنا أن العديد من المرشحين السابقين لم يكونوا منافسين منطقيين على الجائزة، وستذكرنا بفضيحة جائزة العام الماضي، وستحدثنا عن مرشحين آخرين كانوا يستحقون الإنضمام للقائمة، وستخبرنا أن معايير الجائزة غير موجودة، وأن كاتيا أفيرو قد تعلم عن كرة القدم أكثر مما يعلمه بعض المصوتين، وأن تاريخ رونالدو قد يعادل 8 أو 9 من فان دايك أو حتى مليون، وسنوافقك غالبًا، ولكن كل ذلك لن يغير من حقيقة أن رونالدو لم يكن أفضل لاعب في العالم خلال 2019.

الأهم أن المنطق الوحيد الذي يقر بوضوح أن رونالدو لم يكن يستحق الوصول للقائمة النهائية ناهيك عن الفوز بالجائزة، هو منطق رونالدو نفسه، والذي يؤكد أنه لم يكن أفضل لاعب في الدوري الإيطالي حتى لو حصل على جائزة أفضل لاعب في الدوري الإيطالي، بل وفي عدد من فترات الموسم لم يكن أفضل لاعبي فريقه حتى، وأن التقدير الذي يعتقد أنه يستحقه لأنه يفعل ما يفعله وهو في هذه السن سيجبرنا على إعتبار كوالياريلّا ذي الستة وثلاثين عامًا مهاجمًا أفضل منه خلال الموسم الماضي، ليس فقط لأنه سجل عددًا أكبر من الأهداف وبعدد أقل من ركلات الجزاء، بل كذلك لأنه كان أكثر تأثيرًا في نتائج فريقه خلال الموسم.

في الواقع، لو مددنا الخط على استقامته وقررنا تطبيق قانون كريستيانو بحذافيره فسينتج الموقف عددًا لا بأس به من المفارقات الغريبة، وأغربها على الإطلاق سيأخذنا لآخر شخص يمكنك أن تتوقع وجوده في هذا السياق؛ كريم بنزيما. الرجل الذي منذ رحل كريستيانو عن مدريد تمكن من تسجيل 44 هدفًا مقابل 35 لرونالدو، وصنع 17 غيرهم مقابل 12 لرونالدو، ولم يسدد سوى 5 ركلات جزاء مقابل 9 لرونالدو، وكان يساهم بهدف مع الميرينغي كل 96 دقيقة مقابل 107 لرونالدو، بل وفاز لفريقه بعدد أكبر من النقاط، وفي ظل تقلب إداري وفني ومنافسة أكثر حدة وشراسة بكثير من أي شيء قد يقابله يوفنتوس في إيطاليا.

نصف الحقيقة

فان دايك كان محقًا فيما قاله 100% ولكن هذا هو نصف الحقيقة فقط لا غير. النصف الآخر هو أنك من الممكن أن تكون محقًا ودنيئًا في الوقت ذاته، وأنه لم يكن يجدر بالهولندي إطلاق هكذا تصريح، وحتى لو فسره برغبته في المزاح لاحقًا. هذه هي اللحظة التي يصبح الحديث فيها عن تاريخ رونالدو منطقيًا فعلًا، فإن كان لا يؤهله للترشح للجائزة عن هذا العام فهو قطعًا أكثر من كافي لكي يجنبه السخرية حينها. في الواقع، انس ما قلناه للتو لأن التاريخ ليس بحاجة للدخول على الخط عند أي لحظة سواءًا كنا نتحدث عن رونالدو أو أي لاعب آخر، وحتى لو كان رونالدو قد بدأ لعب الكرة لتوه فهذا لا يبرر تصريح فان دايك.

فان دايك كان محقًا فيما قاله بنسبة 100% ولكن كم من الحقائق لا تقال علنًا لأسباب مفهومة ليست بحاجة إلى شرح. هل كان زلاتان محقًا عندما أخبر بايس مدافع سانت إيتيان أنه لا يعرفه؟ ربما، نحن أصلًا لم نكن نعرفه حتى حدثت هذه الواقعة. هل كان زلاتان دنيئًا؟ قطعًا، لا شك في ذلك. هل سيكون ميسي محقًا لو وصف تصريحات بيليه بالخَرَف؟ غالبًا، ولكنه سيكون دنيئًا كذلك. هل سيكون نيكو كوفاتش محقًا لو قال أن فريقه مزق توتنهام إربًا وأنهم يجب أن يشكروا الله لأنهم تلقوا 7 أهداف فقط؟ هذا هو واقع المباراة كما حدث فعلًا، ولكن هذا لا ينفي وضاعة التصريح لو صدر.

حتى الحقيقة قد تملك دوافعًا منحطة أحيانًا؛ لو كان بوتشيتينو هو من أخبر لاعبيه بأن بايرن ميونيخ مزقهم إربًا لتقبلوها منه على الأغلب، ربما لأنهم يعلمون أنه غاضب مثلهم أو أنه يدفعهم للتحسن، أما تصريحات فان دايك فلا شيء يقف وراءها سوى الرغبة في النيل من رونالدو، هي لن تفوز لفان دايك بالبالون دور ولن تجعله لاعبًا أفضل. العالم سيصبح مكانًا شديد القبح لو كنا نصرح بكل ما نراه صحيحًا بغض النظر عن أية إعتبارات أخرى، ربما ننسى هذا أحيانًا في خضم الحروب الإعلامية المشابهة لأن كل الأطراف تتفنن في إبتكار العبارات الحراقة لإهانة بعضها البعض، ولكن مهما نجحوا في ذلك فلا شيء يؤلم كالحقيقة.

المفارقة الأسوأ على الإطلاق هنا هي أن الجميع يحق لهم استخدام هذا المنطق في نقد فان دايك إلا الضحية؛ رونالدو نفسه. في عالم مثالي سيظل تصريح فان دايك نقطة سوداء تُحسب عليه للأبد، وفي ذات العالم، سيكون الوحيد الذي لن يستطيع لومه هو الرجل الذي كان أكثر من استخدم هذا المنطق وأسس له في معاركه الخاصة، ولم يجد حرجًا من قبل في التصريح بأنه قد “يدخل السجن” لو قال رأيه في حصول ميسي على ذات الكرة الذهبية محل النزاع الآن، أو أن إحتفال الأيسلنديين بالتعادل مع منتخب بلاده يدل على “عقليتهم الصغيرة”، بل لم يخجل من التأكيد للإعلام أن السبب الوحيد للهزيمة بالأربعة من الأتليتي أن “باقي اللاعبين لم يكونوا في نفس مستواه”، وعشرات التصريحات المشابهة التي تحتاج مجلدات لحصرها. المفارقة الأسوأ على الإطلاق أن العالم الوحيد الذي تصبح فيه تصريحات فان دايك ملائمة وعادية هو عالم رونالدو نفسه.

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=3595545080456455&set=a.100628693281462
https://www.facebook.com/louay.fawzy/videos/3596061647071465/