مرة أخرى خناقة رؤية الهلال تُصَور (بكسل فكري صار سخيفا) جزءا من معركة الدين مقابل العلم. إطار حاضر وسهل وجاهز لشرح المسألة، والأهم انه يُشعِر المعلقين انهم أعقل وأذكى، وربما أكثر تحضرا، من خصومهم الذين خاصموا العلم بزعمهم
أدنى درجات التأمل تكشف أن المسألة ليست “علمية” بمعنى scientific. ولا دخل للعلم بهذا المعنى بها أصلا.
العلم (في هذه الحالة الفلك) يقطع بمولد الهلال. معاندة العلم، أو اتخاذ موقف مضاد للعلم، هو زعم دار الإفتاء مثلا ان الهلال لم يولد. هذه هي الصورة التي يمكن وضعها في إطار “العلم مقابل الدين،” والتي تصلح للمقارنة بصور تاريخية تُستدعى بشكل متكرر مثل دوران الأرض حول الشمس، أو التطور، أو غيرها من المسائل التي اتخذت فيها المؤسسات الدينية مواقف مخالفة للعلم
لكن دار الإفتاء، وغيرها من الهيئات والجهات التي تُهاجَم في مثل هذه المناسبة بشكلٍ دوري، لم تقل أبداً بهذا القول. بالعكس: هذه الهيئات تقر بمولد الهلال. وتستند إليه في عملها.
دعواها ليست عدم مولد الهلال بحيث يصح وصفها بأنها دعوى مخالفة للعلم. دعواها ان مولد الهلال ليست علامة دخول الشهر الهجري، وأن العلامة هي رؤية الهلال لا مولده
هذه مسألة قانونية/تشريعية/وضعية. البحث فيها ليس معمليا. البحث فيها بحث قانوني لفهم مراد المُشرِّع/الواضع. وهذه المسألة دينية/شرعية من حيث تعلق الأحكام الشرعية بها
الإنسان يدرك بأدنى تأمل ان الوقت يمر غير منقسم لوحدات. وأن هذا التقسيم لوحدات ليس علما “علميا”، لكنه وضعي. يعني مثلا دوران الأرض المتكرر يؤدي لتعاقب الليل والنهار. هذه مسألة علمية. لكن متى يبدأ اليوم؟ هل نبدأ الحساب من بعد غروب الشمس، أم من بعد طلوعها؟ أم من وقت تعامدها على الأرض؟ هذه مسألة يحددها الوضع لا العلم. الوضع اي الاتفاق على علامة بدء اليوم. سواء كان أساس هذا الاتفاق “وضع إلهي”، أو اتفاق بشري
ومثل ذلك تقسيم الوقت إلى أسابيع. لا يقول عاقل مثلا: ان “العلم” يقتضي أن تكون بداية الأسبوع يوم الأحد، أو الاثنين، أو السبت. هذه مسألة وضعية ليست علمية (مرة أخرى أقصد علمية بمعنى scientific، وإلا فهذه المسائل كلها علمية بمعنى معرفية تُبحَث بمنهجيات علمية)
وكذا أوائل الشهور. الحضارات المختلفة تتخذ ظواهر مختلفة علامات على دخول الشهور. حتى الحضارات التي تستند للتقويم القمري تتخذ ظواهر معينة علامات: بعضها. يعتبر مولد الهلال علامة، وبعضها اكتمال القمر، وبعضها وجوده في محل معين في السماء. وهكذا
السؤال (القانوني/التشريعي/الوضعي، لا العلمي) هو: ما الظاهرة التي يتخذها الشرع علامة لدخول الشهر؟ دار الإفتاء وغيرها من المؤسسات الإفتائية تقول: “رؤية” الهلال هي العلامة، لا مجرد مولده هي الظاهرة التي دلت عليها نصوص الشرع. ويقطع النظر عن موقف الناس من هذا، موافقة ومعارضة، فهذه مسألة تشريعية لا تتعلق – من حيث هي – بالتطور التكنولوجي، ولا تتداخل معه أصلا ليقال ان موقفها معادي للعلم أو مؤيد له
أقول”من حيث هي” لأنها تتعلق بالعلم من جهات أخرى، كلها انحازت فيه دار الإفتاء للعلم الحديث. أركز هنا على قضيتين
أولا اعتبار الحسابات الفلكية: دار الإفتاء تصدق الحسابات الفلكية، وتعمل بمقتضاها، وتعتبرها يقينية. يعني إذا قالت الحسابات الفلكية ان الهلال لم يولَد، تقطع الدار بعدم دخول الشهر الجديد، وإن ادعى ألف شخص رؤيته في السماء. لأن عدم ولادة الهلال يعني استحالة رؤيته. الدار تصدق الحسابات الفلكية، وتصدق أن الهلال ولد. وبناء على ولادته تبحث في رؤيته. وبناء على ذلك قاعدة الدار انها تعمل بالحسابات الفلكية في “النفي دون الإثبات”. لأن نفي ولادة الهلال يلزم منه استحالة رؤيته، ولا يلزم من ولادته الرؤية
ثانيا: قبول الوسائل العلمية الحديثة في محاولة رؤية الهلال. خلافا لما يتوهمه بعض الغاضبين من موقف الدار، والذين يتصورون انها ترفض الرؤية بالوسائل الحديثة وتصر على العين المجردة، تستند الدار للمكبرات وغيرها. هي تقبل كل ما يصح وصفه بالرؤية. لكن – مرة أخرى، هذه مسألة علمية: هي تميز بين “الرؤية” التي هي نوع خاص من المعرفة، والمعرفة المبنية على الحسابات، التي هي نوع آخر
القصد أن هذه مسألة تشريعية قانونية. لا علاقة لها بالعلم (مرة ثالثة: اقصد العلم الذي هو science): لا تعارضه ولا تؤيده ولا تتداخل معه أصلا من حيث وهي. وفي المساحات التي تتداخل: تقبل الدار بكل نتائج العلم.
لا يعني هذا ضرورة الاتفاق مع الدار. مفهوم أن ينازع البعض أن الرؤية ليست هي المقصودة (وإن كنت – على كثرة بحثي في هذه المسألة – لم أر أوجه من كلام دار الإفتاء فيها، وقد أصدرت فتوى فيها في نحو ثمانين صفحة، موجودة في كتاب “الفتاوى المؤصلة لدار الافتاء المصرية”)، ولكن تصوير المسألة صراعا أو تناقضا بين العلم والدين، أو رفضا من الدار وغيرها من المؤسسات للعلم، فهذا لا وجه له ولا يقول به من له أدنى معرفة بالموضوع
فيديو مختلف توضيحي لنفس الفكرة
طبعا مع كل الاحترام والتقدير للناس المهتمة بمشاعر القمر والأجرام، وبالتالي قدمت أمس واليوم كل اعتذارتها للعالم الطبيعي بسبب كون بعض البلدان لم تفطر لأنها لم تر الهلال رغم ميلاده فلكيًا، الحقيقة مشاعر نبيلة جدًا، لكن كالعادة هي فوتت نقطة مهمة جدًا أثناء النقاش، هو أصلًا أصلًا، داخل العالم الديني التوحيدي، يعني إيه أجرام؟ يعني إيه طبيعة؟ يعني إيه تقويم؟
مسألة التقويم داخل الأديان ليست مسألة فرعية أبدًا، التقويم جزء مما يمكن تسميته بالزمن الشعائري، وهو جزء من بنية الدين وفق دارسي الأديان مثل إلياد والسواح، بمعنى إنه إذا كان الزمان في ذاته هو شيء محايد ومستقل ومتجانس، ومستمر بلا انقطاعات، فهذه هي حالته فقط داخل العالم العادي، إنما في العالم المقدس، في العالم الديني، داخل دين ما، الأمر مختلف، العالم الديني يبدأ عن طريق تجلي المقدس لكسر وخرق عادية الزمان والمكان، وإعادة تشكيلهم بإضفاء دلالات جديدة عليهم مرتبطة بشكل هذا العالم الديني، تقديس أماكن معينة، تقديس أزمنة بعينها، وضع تقويمات شعائرية، أعياد، وهكذا، وبالتالي فوضع دين ما لتقويم محدد، معناه إن هذا التقويم يعبر عن رؤية الدين للزمن، وللأجرام، وللطبيعة. وطبعًا لارتباط الزمن الديني بالشعائر، فوضع تقويم ما معناه تحديد شكل خاص للشعائر ولعلاقتها بالطبيعة
في التوحيدية التقويم -ومعه كل الشعائر التفصيلية- دومًا يحاول الخروج من الاتصال بالأجرام السماوية وحركتها وكذلك مواسم الطبيعة في الخصب والجدب، وهذا لسببين، سبب عام ونظري، وهو إنه وكما قال إسمان فالتوحيدية لا تخشى الشرك فقط، بل تخشى قبل الشرك عبادة الطبيعة، وبالتالي تحاول دومًا إبعاد نفسها عن الارتباط بالأجرام السماوية وبحركة الطبيعة بين الخصب والجدب، السبب الآخر تاريخي، وهو إنه هذه الأديان واجهت بالفعل وواقعيًا وتاريخيًا عبادات للطبيعة في محيطها، في حالة الإسلام مثلًا ووفق بعض الرؤى عن الدين الجاهلي، فعبادة الطبيعة كانت جزءًا من العبادة الجاهلية، وبالتالي كان ضروريًا اختيار تقويم بعيد عن الارتباط بالطبيعة
اختيار تقويم غير مرتبط بالطبيعة معناه شيء من اثنين، الأول هو اتباع التقويم الشمسي لكن مع تحويل كل الدلالات الطبيعية المرتبطة بالشمس، وهذا واضح في المسيحية مثلًا، فالشمس أصبحت تدل على المسيح، والشرق على عدن، وانقلاب الشمس على القيامة، وهكذا، وبالتالي تمت إعادة إنتاج العالم الطبيعي ليصبح مجرد دلالة على المسيح من ميلاده وظهور النجم بشارة به وإلى صعوده وانتظار مجيئه
في الإسلام الأمر مختلف، وقريب منه اليهودية، بسبب اعتماد التقويم القمري، التقويم القمري ورغم إنه معتمد على القمر، إلا أنه وللمفارقة هذا الارتباط يعزله عن الطبيعة، لأن دوران القمر غير مرتبط بمواسم الإمطار والخصب والجدب، وهي الأطر التي شكَّلت عبادة الطييعة وأجرامها، فالشهر القمري يدور منفصلًا عن كل المواسم، ومن هنا يأتي رمضان دون أي علاقة بمواسم الطبيعة، يأتي صيفًا وشتاءًا وخصبًا وجدبًا وفي كل الأوقات، فهو منعزل عنها، على خلاف التقويم الشمسي المرتبط قطعًا بدوران الأرض وبالتالي بالفصول والمواسم
كذلك فاعتماد التقويم القمري هو نفسه جاء بعد تغيير دلالة الأجرام السماوية في العالم الديني الجديد الذي جاء به الإسلام، سور القرآن الأولى تعلن ارتهان كل مظاهر الطبيعة لله، تعلن انشقاق القمر وانفطار السماء، وتعلن إن الطبيعة عابرة كما يقول جان لويس كريتيان عن الطبيعة في الكتاب المقدس، لم يعد للطبيعة نفس سطوتها في العالم السابق على التوحيد، وأعلن القرآن أكثر من مرة امتلاك الله وحده للزمن، فجعل عدِّة الشهور إلهية، وحرم النسيء، وبلغة أخرى يمكن القول إنه صادر تمامًا الحق في التعامل مع الزمن من منظور اجتماعي أو طبيعي، أصبح تحديده مسألة إلهية تمامًا
من هنا فغريب جدًا كل هذه النقاشات حول ميلاد القمر وطفولته وشيبه، لأن في الحقيقة كل هذا غير مهم، الهلال مجرد علامة لا أكثر، المسلم لا يصوم لأن القمر ظهر، كما كان مثلًا الجاهلي -في بعض الرؤى- يذبح مع نزول القمر في فلك الثريا ليُمطر بنوئه، لكن فقط يتخذه علامة على بداية الشهر، الشهر الذي يصومه لأنه شهر نزول الكلمة الإلهية المفارقة للزمان والمكان والطبيعة
العالم الديني والعالم الطبيعي مختلفان، لا يعني أنهما في تعارض، لكن فقط أن العالم الديني يبدأ مع كسر عادية العالم الطبيعي، وتشكيله بمعان جديدة، ونفس الأمر مع العالم التاريخي، والمهم في تحليل الشعائر هو تحليلها من داخل العالم الديني لفهم الدلالات الخاصة التي يضفيها على العالم وعلى الجسد وعلى الفعل البشري، وهذا من أجل فهم قيمه المركزية التي تميزه كدين عن غيره
طبعًا فرصة جيدة لتذكر أن الدين ظاهرة لابد أن تحلل بالمناهج المتاحة لنا، وفيه تراث هائل في دراسات الأديان طُبِّق وفُعِّل على المسيحية واليهودية، لكن لا يزال الأمر أقل كثيرًا في سياق الإسلام، وفي ظني هذا هو الطريق الوحيد لرؤية الأمور بشكل جديد ومختلف، وتجاوز الخلافات التي لا تنجح إلا في تفويت المسائل المركزية
على سبيل المثال، مؤخرًا ترجم شوقي الزين كتابًا جميلًا حول الظاهراتية والإسلام لسيلفان كاميرلي، فيه مقالة جميلة عن الصلاة الإسلامية مثلا، ورغم خلافي مع كثير من نتائج الدراسة، إلا أنه في ظني أهمية مثل هذه الدراسات هو تأكيدها إنه لا يمكن تجاهل كل المنظورات المنهجية الحديثة أثناء نقاش الشعائر الدينية