التصنيفات
مقالات الضيوف

وما ذنب الذي لم يصله القرآن ؟؟

وما ذنب الذي لم يصله القرآن .. ؟؟

هرش صاحبنا الدكتور رأسه ..
كان من الواضح أنه يبحث لي في الدكتوراه عن حفرة أو مطب يدق عنقي فيه .. ثم قال في هدوء و هو يرتب كلماته : –
حسنًا .. و ما رأيك في هذا الإنسان الذي لم يصله قرآن و لم ينزل عليه كتاب .. و لم يأته نبي .. ما ذنبه .. و ما مصيره عندكم يوم الحساب .. مثل اسكيمو في أقاصي القطبين .. أو زنجي في الغابات .. ماذا يكون حظه بين يدي إلهكم يوم القيامة .. ؟

قلت له : –
دعني أصحح معلوماتك أولا .. فقد بنيت أسئلتك على مقدمة خاطئة ..
فالله أخبرنا بأنه لم يحرم أحدًا من رحمته و وحيه و كلماته و آياته . (( وَ إِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ )) فاطر – 24 .
(( وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً )) النحل – 36 .
الذين جاء ذكرهم في القرآن ليسوا كل الرسل .. و إنما هناك آلاف غيرهم لا نعلم عنهم شيئًا ..
والله يقول لنبيه عن الرسل : (( مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ )) غافر – 78 .
و الله يوحي إلى كل شيء حتى النحل . (( وَ أَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ )) النحل – 68 .
و قد يكون الوحي كتابًا يلقيه جبريل .. و قد يكون نورًا يلقيه الله في قلب العبد .. و قد يكون انشراحًا في الصدر .. و قد يكون حكمة و قد يكون حقيقة .. و قد يكون فهمًا .. و قد يكون خشوعًا و رهبة و تقوى .

و ما من أحد يرهف قلبه و يرهف سمعه إلا و يتلقى من الله فضلاً .

أما الذين يصمون آذانهم و قلوبهم فلا تنفعهم كتب و لا رسل و لا معجزات و لو كثرت .
و الله قال أنه يختص برحمته من يشاء .. و أنه لا يُسأل عما يفعل . و قد يريد الله لحكمة أن ينذر أحدًا و أن يعذر آخر فيقبل منه أهون الإيمان . و من يدرينا .. ربما كانت مجرد لفته من ذلك الزنجي البدائي إلى السماء في رهبة هي عند الله منجية و مقبولة أكثر من صلاتنا .
على أن القراءة المتأملة لأديان هؤلاء الزنوج البدائيين تدل على أنه كان لهم رسل و رسالات سماوية مثل رسالاتنا .

في قبيلة الماو ماو مثلاً نقرأ أنهم يؤمنون بإله يسمونه ” موجايى ” و يصفونه بأنه واحد أحد لم يلد و لم يولد و ليس له كفواً و لا شبيه .. و أنه لا يُرى ولا يُعرف إلا من آثاره و أفعاله .. و أنه خالق رازق وهَّاب رحيم يشفي المريض و ينجد المأزوم و يُنزل المطر و يسمع الدعاء و يصفونه بأن البرق خنجره و الرعد وقع خطاه .
أليس هذا الـ “موجايى ” هو إلهنا بعينه .. و من أين جاءهم هذا العلم إلا أن يكون في تاريخهم رسول و مُبَلِّغ جاء به .. ثم تقادم عليه العهد كالمعتاد فدخلت الخرافات و الشعوذات فشوهت هذا النقاء الديني .

و في قبيلة نيام نيام نقرأ أنهم يؤمنون بإله واحد يسمونه ” مبولي” و يقولون أن كل شيء في الغابة يتحرك بإرادة ” مبولي ” و أنه يسلط الصواعق على الأشرار من البشر .. و يكافئ الأخيار بالرزق و البرة و الأمان .

و في قبيلة الشيلوك يؤمنون بإله واحد يسمونه ” جوك ” و يصفونه بأنه خفي و ظاهر .. و أنه في السماء و في كل مكان و أنه خالق كل شيء .

و في قبيلة الدنكا يؤمنون بإله واحد يسمونه ” نيالاك ” و هي كلمة ترجمتها الحرفية ” الذي في السماء ” أو الأعلى .

ماذا نسمي هذه العقائد إلا أنها إسلام .
و ماذا تكون إلا رسالات كان لها في تاريخ هؤلاء الأقوام رسل .
إن الدين لواحد .
(( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَ الَّذِينَ هَادُواْ وَ النَّصَارَى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )) البقرة – 62 .
حتى الصابئين الذين عبدوا الشمس على أنها آية من آيات الله و آمنوا بالله الواحد و بالآخرة و البعث و الحساب و عملوا الصالحات فلهم أجرهم عند ربهم .

و معلوم أن رحمة الله تتفاوت . و هناك من يولد أعمى و هناك من يولد مبصراً و هناك من عاش أيام موسى و رآه رأي العين و هو يشق البحر بعصاه .. و هناك من عاش أيام المسيح و رآه يُحيى الموتى .. أما نحن فلا نعلم عن هذه الآيات إلا سمعًا ..
و ليس الخبر كالعيان .. و ليس من رأي كمن سمع .
و مع ذلك فالإيمان و عدمه ليس رهنًا بالمعجزات . و المكابرون المعاندون يرون العجب من أنبيائهم فلا يزيد قولهم على أن هذا ” سحر مُفترَى ” .

و لا شك أن صاحبنا الدكتور القادم من فرنسا قد بلغه من الكتب ثلاثة .. توراة و إنجيل و قرآن و بلغته .. فلم تزده هذه الكتب إلا إغراقًا في الجدل .. و حتى يهرب من الموقف كله أحاله على شخص مجهول في الغابات لم ينزل عليه كتاب .. و راح يسألنا .. و ما بالكم بهذا الرجل الذي لم يصله قرآن و لم ينزل عليه كتاب .. ملتمسًا بذلك ثغرة في العدل الإلهي أو موهمًا نفسه بأن المسألة كلها عبث .
و هو لذلك يسألنا ” و لماذا تتفاوت رحمة الله ” .. لماذا يُشهِد الله واحدًا على آياته .. و لا يدري آخر بتلك الآيات إلا سمعًا .

و نحن نقول أنها قد لا تكون رحمة بل نقمة ألم يقل الله لأتباع المسيح الذين طلبوا نزول مائدة من السماء محذِرًا :
(( إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ )) المائدة – 115 .
ذلك لأنه مع نزول المعجزات يأتي دائمًا تشديد العذاب لمن يكفر .
و طوبى لمن آمن بالسماع و دون أن يرى معجزة .
و الويل للذين شاهدوا و لم يؤمنوا .

فالقرآن في يدك حجة عليك و نذير .. و يوم الحساب يصبح نقمة لا رحمة .
و عدم إقامة هذه الحجة البينة على الاسكيمو ساكن القطبين قد يكون إعفاء و تخفيفًا و رحمة ومغفرة يوم الحساب .. وقد تكون لفتة إلى السماء من هذا الاسكيمو الجاهل ذات ساعة في عمره .. عند الله كافية لقبوله مؤمنًا مخلصًا .

أما لماذا يرحم الله واحدًا أكثر مما يرحم آخر فهو أمر يؤسسه الله على علمه بالقلوب .
(( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )) الفتح – 18 .
و عِلم الله بنا و بقلوبنا يمتد إلى ما قبل نزولنا في الأرحام حينما كنا عنده أرواحًا حول عرشه .. فمنا من التف حول نوره .. و منا من انصرف عنه مستمتعًا بالملكوت و غافلاً عن جمال خالقه .. فاستحق الرتبة الدنيا من ذلك اليوم و سبق عليه القول .. هذا كلام أهل المشاهدة .
و ما نراه من تاريخنا القصير في الدنيا ليس كل شيء ..

و معرفة الحكمة من كل ألم و حرمان أمر لا يعلمه إلا العليم .

و الذي يسألني .. لماذا خلق الله الخنزير خنزيرًا ..

لا أملك إلا أن أجيبه بأن الله اختار له ثوبًا خنزيريًا لأن نفسه خنزيرية و أن خلقه هكذا حق و عدل . و كل ما نرى حولنا من استحقاقات هي عدل لكن معرفة الحكمة الكلية و إماطة اللثام عن هذا العدل أمر ليس في مقدور كل واحد .

و لعل لهذا السبب هناك آخرة .. و يوم تُنصب فيه الموازين و يُنبئنا العليم بكل ما اختلفنا فيه .

و مع هذا فسوف أريحك بالكلمة الفصل ..

فقد قال الله في كتابه أنه لن يعذب إلا من أنذرهم بالرسل .

(( وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )) الإسراء – 15 .

هل أرحت و استرحت .. ؟!

ثم دعني أقول لك يا صاحبي .. إن أعجب ما في سؤالك أن ظاهره يوهم بالإيمان و الإشفاق على الزنجي المسكين الذي فاته ما في القرآن من نور و رحمة و هدى .. مع أن حقيقتك هي الكفر بالقرآن و بنوره و رحمته و هداه ..

فسؤالك أقرب ما يكون إلى الإستدراج و المخادعة و فيه مناقضة للنفس هي ” اللكاعة ” بعينها .. فأنت تحاول أن تقيم علينا حجة هي عندك ليس لها أي حجة .

ألا ترى معي يا صاحبي أن جهاز المنطق عندك في حاجة إلى إصلاح .. ؟!

~
د. مصطفى محمود
من كتاب: حوار مع صديقي الملحد