التصنيفات
مقالات الضيوف

هل الداتا بتحاول تقتل الإبداع في الكورة؟

اه، و عشان كده السؤال نفسه غلط

هل الداتا بتحاول تقتل الإبداع في الكورة؟
آه، لكن ماحدش بيقول على النت للأسف،

غالبًا لأنه الفكرة دي، بسبب وجاهتها، بيتم استخدامها من ناس كتير في القضاء على المنطق نفسه، ناس كل مشكلتها مع الداتا إنها بتتطلب مجهود وإطلاع أكبر شوية قبل تكوين الرأي، فدايمًا بتسمع عبارة إنه طز في الداتا لأن عندي عينين أشوف بيها، وكأن هو الوحيد اللي عنده عينين، أو طز في الداتا لأنها مش كل حاجة، ودي عبارة فيها 49 مغالطة منطقية، أبرزهم إنه ماحدش قال إنه الداتا هي كل حاجة أصلًا، بما في ذلك بتوع الداتا نفسهم (مغالطة رجل القش) وتانيهم إن الجزء التاني من العبارة (الداتا مش كل حاجة) بيناقض الجزء الأول (طز في الداتا)، لأنها حتى لو مش كل حاجة فهي حاجة على الأقل، مش ولا حاجة خالص.

أبرز مثال على إزاي الداتا ممكن تحطك في طرق محفوظة مكررة هو اللي عمله ماثيو بينام ورازموس أنكرسن في أندية زي ميتيالاند الدنماركي أو برنتفورد الإنجليزي.

بينام، زي ما ناس كتير عارفة، كان واحد من أوائل اللي ابتدوا يستخدموا الداتا والتحليلات الرقمية في الكورة لسبب بسيط جدًا وبديهي جدًا هو إنه عايز يكسب فلوس. بينام كان بيملك مكتب مراهنات وكان عايز يزود قدرته على توقع نتائج المباريات بشكل علمي ومنطقي بعيدًا عن الخرافات اللي كانت بتسيطر على صناعات زي دي.

بينام كان بيقارب كل شيء بشكل علمي تمامًا لدرجة إنه عين في شركته ناس معاها دكتوراه في الفيزياء (هو نفسه معاه دكتوراه في الفيزياء من كمبريدج) ومحللين إحصائيين ومتخصصين في الرياضيات والبرمجة، وحتى الموظفين العاديين اللي كانوا بيديروا عمليات المراهنة نفسها كانوا بمجرد ما يتقبلوا في الوظيفة بعد الإنترفيو، يستلموا نسخ من كتاب دانييل كانيمان “التفكير بسرعة وببطء Thinking Fast & Slow” عشان يقرأوها ويتعرفوا على نفسهم بشكل أفضل، لأن الكتاب بيناقش عشرات الأنواع من الانحيازات المعرفية اللي الإنسان بيمارسها في حياته اليومية وبتمنعه من تكوين آراء سليمة مقارنة بمقدماتها، أو النظر للأمور بموضوعية بعيدًا عن العواطف.

لما بينام اشترك مع أنكرسن في قيادة ميتيالاند وبدأوا يجيبوا مدربين لكل حاجة عشان يحسنوا قدراتهم في المساحات المهملة في اللعبة اللي الكبار لسه ما كانوش أخدوا بالهم منها، زي رميات التماس مثلًا (توماس جرونمارك مدرب رميات التماس بتاعهم كلوب طلبه بالاسم لأن رميات التماس زي ركلات المرمى بقت نقطة تحول في اللعبة وبعد تعاقد ليفربول مع جرونمارك تحول ليفربول من تاني أسوأ فريق في البريميرليج على مستوى خسارة الاستحواذ بعد رميات التماس لتاني أفضل فريق في أوروبا في نفس الجزئية..التاني بعد ميتيالاند طبعًا)، وزي الضربات الثابتة برضه (الموضة بتاعت تعيين مدربين مختصين في الضربات الثابتة اللي انتشرت في إنجلترا آخر كام سنة بدأت من ميتيالاند وبرنتفورد أصلًا ونقل منهم أندية زي تشيلسي ومانشستر يونايتد وأرسنال اللي تعاقد مع مدرب برنتفورد)، الضربات الثابتة دي وصلت لدرجة من الفاعلية مع ميتيالاند خلتهم يسجلوا منها نص أهدافهم في الدوري في موسم 18-19..النص!

واحدة من الاسهامات المشابهة كانت محاولة استخدام إحصائية الأهداف المتوقعة بطريقة عكسية أشبه بالـ Reverse Engineering اللي بيستخدمه الصينيين عشان يفككوا أي جهاز بعد ما يكون اتصنع ويكتشفوا اتعمل إزاي وبالتالي يعملوا زيه، بينام وأنكرسن بدأوا يجمعوا داتا الأهداف المتوقعة في المواسم اللي فاتت ومنها يعرفوا أي أماكن بيقدروا يسجلوا منها باحتمالات كبيرة، ومع أي لاعب بالظبط، وفي أي وضعية هجومية، وبعد أي سيناريو في البيلد أب، ووضعية جسمه وأقرب لاعب ليه وأمور من هذا القبيل، من خلال تقييم التسديدات بأثر رجعي.بعدها وصلوا لأنهم بقوا يقولوا للاعبين يسددوا إمتى، ومن أي مكان، وفي أي سيناريو وبأي وضعية، وكأنهم حطولهم مسارات محددة للتسديد هي الأكتر فاعلية والأكتر احتمالية إنها تتسجل أهداف.

هي دي كلمة السر؛ الفاعلية.

الفاعلية تبدو كلمة بريئة جدًا، مفيش حد مش عايز يزود فاعليته في أي حاجة بيعملها، خاصة لما يبقى فريق زي ميتيالاند ميزانيته ربع ميزانية أكبر فريقين في الدنمارك، أو فريق زي برنتفورد ماعندوش إمكانيات فرق التشامبيونشيب المادية وعايز ينجح.

لكن كعادة أغلب الأشياء والمفاهيم، الفاعلية كمان بتعني، في حالات كتير، إنك حتتجاهل النسبة الأقل في احتمالات النجاح، مهما كانت مهمة للإبقاء على التنوع المطلوب.

مثال؛ إنت عايز تفتح محل أكل جديد، لو في داتا متوفرة تقدر تعمل منها دراسة جدوى وتدرس سلوك المستهلكين وأي المنتجات عليها إقبال، حتكتشف إن (مثلًا يعني) الفراخ المقلية نسبة نجاحها 60% بينما الكشري نسبة نجاحه 40%، فمنطقيًا حتروح للـ60% لأنك راجل بتعمل بيزنس تاكل منه عيش مش جاي تغير العالم ولا مسئول عن التنوع في المجتمع، ولو في ناس كتير بتعمل زيك في نفس اللحظة فحيتفتح 10 محلات فراخ مقلية مقابل 0 محلات كشري، بالتالي في 40% من الناس مش حيلاقوا قدامهم غير إنهم ياكلوا في البيت، أو ياكلوا فراخ مقلية زيهم زي باقي الناس.طبعًا ده مثال بسيط مسطح بيختزل عملية أكتر تعقيدًا بكتير، لكن ممكن تطبيقه على الكورة، والمشكلة في الكورة إن النسبة كمان بتبقى أقل من كده بكتير، يعني لو درسنا مثلًا وضعيات التسديد ممكن تتسبب في أهداف باحتمالات قد إيه، فأجعص نسبة حتلاقيها قدامك حتبقى 25% أو 30% مثلًا، عمرك ما حتلاقي وضعية أو سيناريو يوصلك لتسديدة نسبة نجاحها 70 أو 60 أو 50% حتى، لكن إنت مضطر تمشي مع الاحتمال الأكتر قابلية للنجاح وتتجاهل باقي الاحتمالات لأن ده اللي بيقرّه المنطق.

دي مشكلة الداتا الغريبة اللي عمر ما حد كان يتخيل إنها حتبقى مشكلة أصلًا، ببساطة لأننا رايحين للداتا إبتداءًا عشان تدينا إجابات قاطعة حاسمة باترة، وبعدين إكتشفنا إن الإجابات القاطعة الحاسمة الباترة دي -إن وجدت- حتخلق نوع من الروتين، وبعد فترة كل الناس حتعرفها وحتبقى كل الناس بتعمل نفس الشيء، والروتين خُلق لكي يُكسر، والقدرة على كسره هي الشيء الوحيد اللي بيديله قيمة.المفاجأة بقى إن ده الشيء اللي ممكن إدراكه بالداتا برضه.

استخدام الداتا مش لازم يكون هدفه طول الوقت الوصول لأكتر الطرق فاعلية، لأنه دايمًا في عنصر مهم في الطريقة البشرية لتحليل الداتا نفسها، تخيل مثلًا ماذا كانت لتقول الداتا لو تمت استشارتها في طريقة جاسبريني في الرقابة رجل لرجل والضغط بنفس الكيفية في كل أرجاء الملعب؟ كانت حتقوله احتمالية نجاح الطريقة دي بناءًا على التجارب السابقة = 5% مثلًا، وبالتالي ينتهي مشروع أتالانتا جاسبريني من قبل ما يبدأ أصلًا.

الداتا ممكن تكون أداة تقدر تناقض بيها الداتا نفسها على أسس علمية، بمعنى إنك تقدر تتوقع إنه بعد ما العشر محلات فراخ مقلية يفتحوا السوق حيفقد توازنه، وحتبقى محلات الفراخ المقلية بتتزايد بنسبة لا تعبر عن الطلب عنها، من كل 10 محلات جديدة 10 بيفتحوا فراخ مقلية بينهم احتياج السوق هو 6 بس، بالتالي لو في محل واحد بس فتح كشري دلوقتي حيقدر ياخد الـ40% لوحده.

ده نفس اللي بيحصل في الكورة كل شوية، حاول تفتكر كده لما كونتي لعب بخط دفاع ثلاثي في إنجلترا، أو لما كان رايكارد بيلعب 4-3-3 في إسبانيا وفي نفس الوقت مورينيو بيلعبها في إنجلترا بعد عقدين من سيطرة ثنائي الارتكاز، أو لما بوتشيتينو وباكو خيميث جربوا يلعبوا ضغط عالي على برشلونة في حين إنه ده كان بيعتبر جنون، أو لما رجعنا تاني ندور على الكور الطويلة والمهاجم التسعة اللي يقدر يستلم تحت ضغط (لوكاكو/كين)، أو لما جوارديولا نفسه بدأ يلعب بتلاتة في الدفاع الموسم اللي فات، أو لما ثلاثيات الوسط اختفت تاني بعد عقد وأكتر من الانتشار في الفرق الكبيرة.

كل لحظة من دول كانت تمرد على الروتين، وهنا بتحصل الغلطة الإنسانية الدائمة اللي نادرًا ما بنتعلم منها، وهي إنه لما التمرد ده بينجح، بنتخيل إنه الروتين اللي سبقه كان سييء وفاشل، وده غير حقيقي، ببساطة لأن اللي تمردوا عليه نفسهم حيرجعوله تاني عند لحظة مستقبلية، لما ما يكونش روتين، وهكذا.

ده نفس اللي حيحصل في ميتيالاند وبرنتفورد، لو أقنعت لعيبة كتير إنه وضعيات معينة هي بس اللي ينفع تسدد منها، ولو المعلومة دي انتشرت بسبب نجاحها وتمردها على العشوائية اللي كانت قبلها، فهي نفسها حتتحول من طريقة ثورية إلى مجرد روتين، واللاعب اللي حيفضل حريص على إنه يسدد من الوضعية دي حيلاقي الخصوم بقوا قاريينه ومستعدين يمنعوه، وهنا حُيجبر على التغيير مرة تانية، مفيش حل تاني.

عشان كده السؤال نفسه غلط، الداتا ما بتحاولش تعمل أي حاجة، هي مجرد أداة، اللي بيحاول هو إحنا، إحنا اللي طول الوقت بنسعى لطريقة نزود بيها الفاعلية ونقضي بيها على المفاجآت والعشوائية، والداتا بتساعدنا على ده، لكنها في نفس الوقت بتجبرنا على إننا نرجعلها تاني عشان ندور على طريقة جديدة، ببساطة لأنه أي إجابة بتديهالك الداتا دلوقتي هي مرحلية غالبًا، ومفيش إجابات دائمة.

المصدر