التصنيفات
المدونة

كيف باعتنا السلفية للنسويات؟

“أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلا!؟”

من يقرأ الإسلام من نصّه التأسيسي الأول (القرآن الكريم)، يلاحظ ما بين السطور شيئا جميلا جدّاً.. وهو أن الله سبحانه وتعالى، وفيما يخص أركان الإسلام الأساسية وعباداته الكبرى، لم يمنح الدولة/المجتمع أي سلطة تقريبا على الأفراد.. فليس في القرآن مثلا أي عقوبات تنظيمية لتارك الصلاة، ولا لمانع الزكاة أو مفطر رمضان أو تارك الحجّ.. وبالتأكيد لا يوجد عقاب للمرأة التي تخلع الحجاب أو التي تقرر عدم ارتدائه أساساً.. وانعدام أي نصّ عقابي بهذا الخصوص، يعني بالضرورة أن الإنسان حرّ تماماً (في الدنيا) في الالتزام بهذه الشعائر أو عدم الالتزام بها.. ولا يمكن لا للدولة ولا للمجتمع ولا للعائلة حتى إجباره على الأمر.. بالمقابل، فجميع العقوبات التي نصّ عليها الإسلام كانت فقط في الحالة التي يؤذي بها الإنسان غيره بشكل مباشر ومقصود.. وهنا منح المجتمع سلطة على الفرد.. بل وجاء الخطاب مباشرة للمجتمع في آيات مثل.. والزانية والزاني فاجلدوا، والسارق والسارقة فاقطعوا.. المهمّ، أنّه في الوقت نفسه الذي حمى فيه الإسلام الفرد من سيطرة المجتمع والدولة عليه، وأعطاه حرّيته هذه كاملة.. فلم يتركه فريسة لأهوائه أو حكمه الشخصي على الأمور، بل ألزمه بميثاق أخلاقي خارج عن ذاته.. وهو القرآن الكريم وتوصياته.. أي بمعنى آخر.. صحيح أيّها الإنسان أنّنا حررّناك من سلطة الدولة والمجتمع.. وجعلنا دورهم تذكيريا فقط “فذكّر إنّما أنت مذكِّر” لكن في الوقت نفسه لا تتّبع هواك يا إنسان فتردى.. بل التزم بميثاقنا الأخلاقي الموجود خارج ذاتك فتنجو.. كل هذا جميل وطيّب ومنطقي ومفهوم.. وظل ساريا في مجتمعاتنا الإسلامية العربية، حتى جاءت بدايات القرن الماضي ونشأت الدولة السعودية، واستلمت السلفية فيها مقاليد الأمور الدينية.. ولأنّ السلفية كما أسلفنا تعيش في الماضي وتحاول قلب التاريخ.. وفي محاولة بائسة منها لتجسيد تصوّراتها المتخيلة عن المجتمع المسلم، ونقلها من صفحات كتب التاريخ إلى أرض الواقع.. قامت أول ما قامت به، بمصادرة حرّية الإنسان هذه التي كفلها له الله في كتابه.. ولَم تقنع بدوّر التذكير الذي وضعه الله عزّ وجلّ سقفاً لنبيّه الكريم.. بل تجاوزته للعب دور الرقيب والوصي والمسيطر على الناس.. وكلّه بهدف واحد “ظاهر”” وهو بناء مجتمع مسلم قسراً.. طبعاً نتيجة لهذا التوجّه الذي بدأ قبل الصحوة حتى.. أصبح هنالك ما يسمى بالشرطة الإسلامية.. هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تأسست سنة 1940 بالمناسبة.. والتي لم تكتفِ فقط بمنع ومصادرة “المحرّمات” بل وراقبت أيضاً الالتزام بتعاليم الإسلام.. ففرضت العباءة والنقاب على الجميع.. منعت التدخين.. أقفلت المحلات وقت الصلاة، منعت سفر المرأة.. فرضت الولاية.. أغلقت السينمات.. راقبت الأسواق.. بل ووصل الأمر لوضع كشوف في المساجد لمراقبة التزام المصلّين بصلاة الفجر.. ومن عاش في السعودية في سبعينيات القرن الماضي فما فوق يعرف هذا الكلام جيداً.. وطبعا ساهم في انتشار هذا التيّار، بزوغ التيارات المتشددة في باكستان وأفغانستان.. وتزامن معه أيضا انتصار الثورة الإسلامية وحكم الملالي في إيران.. بالإضافة بالطبع لتمدد السلفية نفسها في بلدان أخرى عبر التمويل ونشر الدروس وغيره.. والهدف أو النتيجة (سيّان) واحد.. مصادرة إرادة الإنسان الحرّة واستبدالها بسلطة سياسية أو مجتمعية في الحدّ الأدنى.. ففي دولة كمصر، حيث لم يكن من الممكن سنّ قوانين تجبر النساء على الحجاب وبالتالي اكتساب سلطة سياسية.. تم خلق سلطة مجتمعية على الناس.. وتمّ استحضار حديث “الديوث” في غير موضعه، لوصم أهل الفتاة غير المحجبة… وتم تكرار هذا الخطاب مرارا وتكراراً على المنابر حتى خلق بالفعل سلطة مجتمعية أجبرت الكثيرات على الحجاب قسراً بمجرّد البلوغ.. والأمر نفسه لم يحدث مع الصلاة مثلا وهي أهمّ دينياً من الحجاب.. فبحسب السلفية الأب الذي لا ترتدي ابنته الحجاب يكون ديوثاً.. لكن ذلك الذي لا تصلي ابنته أو ابنه، فلا يعتبر كذلك.. مع التأكيد طبعاً أن هذا لا ينفي بالطبع أنّ نسبة كبيرة من الفتيات قد تحجّبت طوعاً والتزاماً بتعاليم الإسلام.. أو أن من أولئك اللواتي قد تحجّبن قسراً اقتنعن بالحجاب فيما بعد.. المهمّ، لأنّ سنّة الله في خلقه، أنّ الزبد لا يمكث في الأرض.. ولأن التوجه السلفي يعاكس توجّهات القرآن نفسه وطبيعة الإنسان نفسه.. فمع تغير توجهات الدولة السعودية وسحبها لسلطات السلفيين، نبذ الناس هذا الفكر تماماً وراء ظهورهم.. بل وصار مدعاة للسخرية والتندر واستذكار الماضي ببؤس ولعنات.. لكن هذا التغيير جاء متأخراً قليلاً.. وتركت السلفية أثرين مهمّين نعيشهما ونتعايش معهما بشكل يومي..الأول هو أنّه حتى مع انهيار سلطة الفكر السلفي وتبرؤ رموزه منه، إلّا أن السلطة المجتمعية التي خلقها ذلك الفكر لا تزال باقية بشكل كبير.. داخل وخارج السعودية (دولة المركز).. فلا يزال الوصم المجتمعي والتمييز الجنسي موجوداً ضد الإناث بشكل خاص في الكثير من الأسر العربية.. وهو ما عبّرت عنه فتاة سعودية بقولها.. بماذا تفيدني السعودية الجديدة وأهلي لا زالوا تحت الفكر القديم؟الأثر الثاني والأهمّ فهو أنّ السلفية لم تنتهِ قبل أن تسلّم المجتمعات الرافضة لها لسطوة التيّارات الفكرية الإنسانوية كالنسويّة وغيرها.. وهي تيّارات نجحت لأنّها أعادت للإنسان حرّيته التي وهبها له الله وسلبتها منه السلفية.. وهذه نقطة تحسب لها حقيقة بغض النظر عن الدافع.. لكن مشكلتها الأكبر أنّها لم تكتفِ فقط بردّ هذه الحرّية للإنسان.. لكنّها مشت خطوة إضافية ثانية، بأن حررّته أيضاً من أي نظام أخلاقي فكري خارج عن نوازع ذاته..التيّارات الفكرية الإنسانوية الجديدة التي تنتشر بين الشباب العربي الآن ونرى آثارها واضحة في خطاباتهم، تقدّس الإنسان حرفياً بل وتعبده.. وردّها الوحيد على أي خطاب أخلاقي هو الإحالة إلى حرّية الإنسان.. بحيث يصبح الحكم الأخلاقي في أي مسألة هو قرار الإنسان نفسه.. فإن أراد فعل الشيء كان الشيء طيّباً ومقبولاً.. وإن رفضه كان الشيء سيئاً ومذموماً.. (الشذوذ كمثال) بدون الرجوع لأي مرجعية أخلاقية خارجية.. أي أنّ الحركات الإنسانوية التي تقودها النسوية، لم تكتفِ بحرّية الممارسة للإنسان التي ضمنها له الإسلام مع إلزامه فكرياً بنظام أخلاقي وعواقب أخروية.. بل حرّرته من سلطة الدولة والمجتمع ومن سلطة أي نظام أخلاقي أو دين.. أي أنّه لا وجود لمفهوم الله هنا.. الإنسان هنا هو ربّ نفسه.. وهو من يحلّل ويحرّم لنفسه وعلى نفسه ما شاء.. باختصار، السلفية انتهت.. لكنّ فكر “إلهه هواه” هذا الذي ينتشر الآن وبقوّة بين المراهقين والمراهقات ستكون له عواقب وخيمة على الجميع.. تفوق في أثرها ربّما ما فعلته السلفية.. وبنظرة تحليلية بسيطة تستطيع أن تراه بوضوح واقفاً خلف أي نقاش اجتماعي يدور اليوم من حولك أيّاً كان موضوعه.. والمشكلة الأكبر.. أنّك لا تستطيع أن تحاجج هؤلاء الناس أبداً.. لأنّ الواحد منهم لا يستند إلى أي منطق أو مصدر ثابت يمكن أن تحيله إليه سوى نزواته.. أريد ولا أريد.. فالمعركة محسومة سلفاً.. وقال الله نفسه هذا الكلام.. “أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلا!؟”

المصدر