التصنيفات
مقالات الضيوف

فرانك أندروود.. لماذا نحب الأشرار؟

يُقال إن الناس ينقسمون إلى فئتين رئيستين؛ هؤلاء الذين يحبون الجوكر وهؤلاء الذين لم يشاهدوا الفيلم بعد، وفي أقوال أخرى يُستبدل الجوكر بفيتو كورليوني أو جوردان بيلفورت، لذا يمكنك تخيل ما فاتك إن لم تكن قد شاهدت  (Game of Throne) أو (Breaking Bad)، أما لو كنت قد شاهدتهم ولم تقع في غرام هايزنبرغ أو جايمي لانيستر بعد فهناك خطب ما بالتأكيد، لأن الإنترنت يحتوي على ملايين التحليلات التي تخبرك لماذا يحب الناس الأشرار ولكنه لا يقدم ما يكفي من التفسيرات لحالتك، مجرد بحث سريع وستجد نفسك غارقًا في طوفان من مزايا الغيلان (Villains) للدرجة التي تشعرك بالذنب.

أنت تعلم كيف يمكن لأي نظرية أن تبدو مقنعة على الإنترنت من خلف الشاشات، وحتى لو كانت صماء لا تمتلك وجهًا معبرًا أو نبرة صوت جذابة، فمهما كان غرابة ما تقرأه فسيكفي الكاتب أن يعترف بغرابته في البداية ثم يضيف بضعة عبارات ماكرة قادرة على إنهاء أي جدل أخلاقي محتمل، وبذلك يكون قد قطع أكثر من نصف الطريق نحو إقناعك،  في الواقع تُستخدم تلك الطريقة لتبرير أعجب الأمور ولا بد وأنك قد قابلتها مرارًا، على غرار “أعلم أن الكرة الأرضية لا تبدو مسطحة في صور ناسا ولكن..”، أو “بغض النظر عن أن هتلر سفاح قتل الملايين إلا أن..”، وكأنها عملية ابتزاز افتراضية يوافقك خلالها الكاتب في البدايات عسى أن يجبرك الإحراج على العكس في النهاية.

أول ما ستعرفه أن الأمر ليس بجديد، لا بد وأنه قديم قِدم الإنسان بما أن فرويد قد تحدث عنه، والخلاصة أنك تحب الأشرار، والمهم أن فرويد لا يجد خطبًا في ذلك، لأنك كائن أناني وغير اجتماعي بالفطرة، وغيلان الأفلام ليسوا إلا مجموعة من الأنانيين المستعدين لفعل أي شيء لإشباع رغباتهم، والفارق الوحيد بينهم وبينك هو أنهم متحررون من قيود المجتمع الأخلاقية التي تمقتها أساسًا، وهو سبب إضافي للإعجاب بهم كما ترى، وفقًا لفرويد على الأقل.

ستجد عشرات التحليلات التي تحدثك عن “الشر الآمن”، على غرار الرعب الآمن، أي الحاجة لتقمص الشر دون تقمص الشر فعلًا، أن تكون بابلو إيسكوبار أو هانيبال ليكتر لبضع ساعات ثم تتمكن من الذهاب لعملك في اليوم التالي دون أن تُردى قتيلًا على سطح أحد المنازل أو تُسجن في زنزانة انفرادية للأبد، بالضبط مثل الرعب الآمن الذي يمكنك إنهاءه في أي وقت بضغطة زر، ولكن تلك النظرية لم تفسر الكثير في الواقع، لأنها لم تفعل إلا إعادة تعريف مفهوم التمثيل نفسه، فبالمثل يمكننا أن نتحدث عن الرومانسية الآمنة والتراجيديا الآمنة، بالإضافة لأن الرغبة في رعب افتراضي آمن هي تعبير عن غيابه في الواقع، وهو ما لا يمكن قوله عن الشر بأي حال من الأحوال.

المحبط أنك حتى لو لم تقتنع بنظرية فرويد، وحتى لو لم تكن ممن يستمتعون بالشر من باب كسر الروتين، فسيتعين عليك أن تشق طريقك وسط أطنان من التفسيرات المتطرفة التي تأكل نفسها بنفسها، وفي مقدمتها طبعًا كلاسيكية طرفي العصا التي لا تموت أبدًا وتصلح لكل المواقف، فطبقًا لعدد لا بأس به من التحليلات نحن نحب الأشرار لأننا سئمنا الأبطال المثاليين البلاستيكيين الذين أغرقتنا بهم السينما في المئة عام الماضية.

النظرية نفسها تحمل قدرًا من الوجاهة بالطبع، فلا يمكنك أن تُنكر أن صناع الفن قد أهملوا هذا الجانب عبر أجيال كاملة من الغول السطحي الذي لا يفعل شيئًا طيلة الفيلم سوى العبث بشاربه الرفيع والتخطيط لتدمير العالم، شياطين حقيقية بأذيال وقرون تمارس الشر للشر وسبب وجودها الوحيد هو أن يقهرها البطل في النهاية، لذا صُدم الجميع عندما اكتشفوا أن نصابًا كداني أوشن يمكنه أن يكون محبًا مخلصًا بل وخفيف الظل كذلك، وشعروا بالخديعة عندما علموا أن إيسكوبار بنى عشرات المنازل لفقراء ميديين، وجن جنونهم مع كل حكمة يطلقها الجوكر ويعجز أمامها باتمان عن إيجاد رد مفحم، ورغم أن نولان حرص على إخراج شخصية باتمان في إطار واقعي بعيد عن المثالية بدوره، إلا أنه لم يكن شريرًا بما يكفي ليعوض الناس عن عقود من فن الأبيض والأسود الأخلاقي الذي لم يمنحهم القدر الكافي من الرمادية الواقعية، والحقيقة أنك لا تستطيع لومهم.

بالطبع لا يعني ذلك أن النظرية صالحة لكل الحالات، وهنا تلعب عصا التطرف لعبتها المعتادة، فإن كان بإمكانك تفهم التعاطف مع لص يسرق لصوصًا أغنى منه، فلن تفهمه أبدًا مع تاجر مخدرات يقتل الآلاف ليحمي إمبراطوريته، فعند نقطة معينة اختلت البوصلة وبدا وكأننا لا نريد إلا المزيد من الشر، تحت عنوان كبير هو التمرد على مثالية السذج التي تجرعناها مرغمين فيما سبق، وهو أشبه بالقول إن الناس تقفز من الدور العاشر لأنها سئمت استخدام الدرج.

النتيجة أن كل هذا التطرف والتطرف المضاد قد أفقد تلك النظرية شرعيتها تمامًا، ولم يكتفِ بذلك فحسب بل امتد أثره للعبث بالمنطقة الرمادية الآمنة والإخلال بمعاييرها، فحتى البراغماتية الميكيافيلية لشخصية مثل خافيير بينيا لم تعد كافية لإثارة تعاطفنا، الرجل يكذب ويمارس الدعارة ويتعاون مع العصابات المسلحة ولكنه لا يزال مثاليًا أكثر من اللازم لأنه يفعل كل ذلك من ضفة الأخيار، فالمنطقة الرمادية صارت تملك عناوينَ جديدة الآن من طراز الديكتاتور العادل والمجرم المتسق مع ذاته إلى آخر تلك الثنائيات السيريالية التي اختلقتها حقبة ما بعد الصدمة، والشرطي المجتهد المعيوب ليس واحدًا منها بالتأكيد.

فالضربات لم تتوقف عند المثاليات البيضاء المزيفة، بل امتد أثرها ليطال مبدأ رماديا كريها مقبولا على مضض مثل الغاية تبرر الوسيلة، ميكيافيلّي نفسه برماديته الداكنة لم يعد مستساغًا من الأصل، نحن لم نعد نتعاطف مع الأخيار المذنبين كخافيير بينيا ولا حتى الأشرار التائبين كجيسي بينكمان، بينما الشر الذي نضجنا على مقته صار يكفيه بضعة رتوش إنسانية لنقع في غرامه، لا نحتاج أكثر من علاقة أبوية مضطربة هنا أو حب صادق هناك يثبت أن الجوكر ومايكل كورليوني ليسوا وحوشًا عديمة المشاعر، مجرد إزالة للقرون والأذيال بالفوتوشوب لكي لا نشعر أننا قد تحولنا لوحوش بدورنا، وأحيانًا قد يؤدي رامزي بولتون الغرض بلا فوتوشوب.

إذن هو الجانب الإنساني اللعين، المصطلح الذي يطل برأسه دائمًا في هذه الأعمال، وكأننا توقعنا أن تجار المخدرات يلقون أطفالهم للأسود من باب التسلية وحتى تكتمل الصورة النمطية، وعندما اتضح أنهم لا يفعلون اكتشفنا فجأة أنهم بشر مثلنا.

هي دائرة مفرغة لا مهرب منها في الواقع، فنحن نكره المثالية المصمتة لأنها غير واقعية، وفي نفس الوقت نحن لا نكره الشر إلا إذا كان مصمتًا، ونكتفي ببضعة ثقوب لنعلن قبوله في العالم الواقعي، وهنا يلعب معنا لعبته التي لا يجيد غيرها؛ فإن كنت من الأشرار فإن هانيبال ليكتر موجود ليؤكد لك أنك لم ولن تكون بالسوء الذي تظنه مهما فعلت، وإن كنت من الأخيار فقد سلبتك غيلان العصر الجديد من كل شيء، حتى التقدير المعنوي لم يعد من نصيبك لأن لا أحد يتذكر اسم المحقق الذي ألقى القبض على ذئب وول ستريت، وإن حالفك الحظ فإن أقصى ما ستحصل عليه هو دور الشرطي المغرور المتطفل ثقيل الظل هانك شريدر.

في 2015 حاول أحد علماء جامعة آرهوس الدانماركية البحث في الأسباب التي تدفع الأعمال الفنية نحو غيلان أكثر تعقيدًا وعمقًا، في محاولة للإجابة عن السؤال الأهم الذي تطرحه هذه النوعية من الأعمال، وهو قدرتها على استبدال حكايات ما قبل النوم التي يؤمن علماء السلوك أنها أحد أهم عوامل تكوين الوعي والضمير ورقابة الإنسان على سلوكه فيما بعد، أي بمعنى آخر؛ محاولة تخيل الأجيال الجديدة التي سيشكل وعيها جايمي لانيستر والسوبرانوز بدلًا من الشاطر حسن والسندباد.

مجرد التفكير في الأمر مرعب بالطبع، ولكن نظرية كريستيانسين كانت تحمل الكثير من الطمأنة، ومختصر ما قاله الرجل إن ما يجعل الشر شرًا هو قدرته على إثارة المشاعر السلبية في نفوسنا، مثل الخوف والتقزز الذي ينتابك عند رؤية ليذرفيس مثلًا، وما دام الأشرار الجدد ما زالوا قادرين على إثارة نفس المشاعر فلا حاجة للقلق، بل إن استمرارهم في ذلك ضروري لإبقاء الضمير البشري متحفزًا إن جاز التعبير، وهي نظرية رائعة لكن بها ثغرة واحدة هي أن الأشرار الجدد لم يعودوا يثيروا تلك المشاعر أصلًا.

ما حدث هو إعادة هندسة للقوالب القديمة بشكل كامل، وبناءً عليها صارت أغلب النواقص تُلصق بالأخيار والعكس بالعكس -هانك شريدر مثال رائع في هذا الصدد- بل وفي بعض الأحيان يتم تحجيمهم لصالح البطل الحقيقي، وكأن الأخيار الحاليين يدفعون ثمن التسطيح الذي عاناه الأشرار السابقين، لذا افتقدنا إيسكوبار في الموسم الثالث من ناركوس ولم نفتقد ستيف ميرفي.

الأهم أن التشوهات الشكلية والمظاهر المبالغ فيها قد اختفت تمامًا، وحل محلها نماذج لأناس عاديين يمارسون الشر في سلام ولا يريدون من العالم إلا تركهم وشأنهم، خاصة أن الأشرار الجدد صاروا يمتلكون كل عناصر الجذب الاجتماعية، ولم يعد هناك مجال للتقزز أو الخوف الذي يتحدث عنه كريستيانسين مع ثري وسيم ذكي كجوردان بيلفورت، أو تاجر مخدرات محب للفقراء كإيسكوبار، يثير قتله التعاطف أكثر من الزهو بالعدالة.

“بعد أن قضيت سنوات في مطاردته، فجأة وبهذه البساطة وجدت نفسي أنظر إلى بابلو إيسكوبار اللعين وهو ملقى على الأرض.. طيلة هذه السنين كنت أحاول بناءه في رأسي، أتخيل أي وحش سيكون.. ولكن الحقيقة أن لقاء الشيطان كان محبطًا للغاية.. مجرد رجل عادي بدين حافي القدمين، وتنمو لحيته إن لم يحلقها”

(ستيف ميرفي – ناركوس)

النظريات كالباكتيريا، كلما أمسكت بواحدة منها انقسمت لاثنتين، ولكن يمكنك القول إن الملل هو البطل الأبرز هنا، فالقاعدة الأساسية التي أنتجها عصر التواصل هي أن العالم يمل سريعًا من كل شيء وأي شيء، وهو ما يعني أن الدور سيأتي على الغيلان الجدد قريبًا، فقط نحن لا نعلم إلى أين سنتجه بعدها.

بعض المتخصصين في المجال يرون أن الأصل في القصة يعود لحقبة التسعينيات، حيث أغرقت مسلسلات الـ(Sitcom) تليفزيونات العالم بأسلوبها الذي اعتمد على الحلقات المنفصلة، وهو ما أشعر الناس لاحقًا بالحاجة إلى أعمال فنية أكثر طولًا وارتباطًا ببعضها البعض (Long – Form Story Telling)، وتلك المتطلبات الجديدة للسوق أجبرت الجميع على تخليق غيلان أعمق وأغنى بالتفاصيل حتى تستطيع الصمود لمواسم كاملة، ومع الحلقات الطويلة والأبطال الدسمين صار من السهل تحفيز مشاعر الألفة والصداقة تدريجيًا لدى المشاهد، فبعد أن يعتاد الغيلان الجدد فلن يواجه مشكلة كبيرة في التجاوز عن سيئاتهم لأن هذا هو ما يفعله مع أصدقائه؛ يتجاهل عيوبهم لكي يحافظ على ما هم أهم من وجهة نظره وهو استمرار العلاقة نفسها، بالإضافة لأن مشاهدة مساوئ الآخرين تمنحه نشوة الإحساس بالتفوق الأخلاقي.

إذا كنت بدأت تشعر في تلك اللحظة بأننا ندور في حلقات متشابهة وأن تلك الخلاصة هي ما توصلنا إليه منذ بضعة فقرات فأنت محق على الأغلب. الحقيقة أنه لا يبدو أن أحدًا يمتلك إجابة شافية للسؤال، فإذا كنا نحب الأشرار لأن قبحهم يشعرنا بالجمال فبماذا نفسر لجوء شركة عملاقة كجاغوار لثلاثة من الغيلان الجدد للترويج لسياراتها؟ الرسالة الدعائية والتسويقية (It’s Good to be Bad) قائمة بالأساس على انبهارنا وإعجابنا بشخصيات توم هيدلستون ومارك سترونغ وبين كينغسلي كأشرار عصريون، فسيارات الجاغوار ليست قبيحة قطعًا، وحتى لو كانت فلن ينفق المشاهدون 40 ألف باوند فقط لكي يشعروا بجمال سياراتهم القديمة.

   أي قبح نتحدث عنه هنا بالضبط؟

حتى الحديث عن الملل من المثالية لا يفسر لماذا تتجه أكبر شركة رسوم متحركة إلى نفس النمط بمنتهى الحماس، فبطريقة ما تحولت ديزني من عروسة البحر وبامبي والأسد الملك إلى ميغا مايند و(DespicableMe) وقراصنة الكاريبي، وبلا مسلسلات طويلة ولا أحاسيس بالألفة والصداقة لتفسر الأمر، وبالطبع لم يسأم الأطفال في المئة العام الماضية من السينما لأنهم لم يشاهدوها من الأصل، بل إن بعض الأعمال مثل (Maleficent) قائمة فقط على إعادة إنتاج الشر، فطبقًا للفيلم فإن قصة سنو وايت كلها لم تكن أكثر من مجرد سوء تفاهم، والساحرة العجوز الشمطاء الشريرة ليست بهذا السوء في الواقع، لذا إن كنت ما زلت تحاول تخيل الأجيال الجديدة التي سيشكل وعيها جايمي لانيستر والسوبرانوز بدلًا من الشاطر حسن والسندباد فربما لم يعد هناك حاجة لذلك.

هنا يأتي دور فرانك أندروود لـ”يخترق كل هذا الهراء الإنساني” كما يقول أبناء بلده، إن لم يكن فرانك أندروود قد مر عليك بينما أحد أصدقائك يجعل منه صورة حسابه على فيسبوك أو تويتر، فهو سياسي أميركي انتهازي منحط يقوم بدوره العبقري كيفن سبيسي، وكلمات كانتهازي ومنحط تأخذ أبعادًا جديدة مع سياسي كأندروود، لأنها تعني ببساطة أنه سيسحق كل من يقف في طريقه، سيرشيه أو يهدده أو يفضحه أو يقتله، وكل ذلك بمساعدة زوجته كلير التي يشكل معها ثنائيًا متفاهمًا لدرجة مثيرة للغثيان.

عبر حلقات مسلسل (House of Cards)، يبدأ فرانك أندروود كزعيم الأغلبية في الكونغرس، وبعد كم هائل من التفاصيل السياسية والمعارك المرهقة يصل الرجل إلى مراده ويصبح رئيس الولايات المتحدة الأميركية، ثم يتهاوى القصر الورقي شيئًا فشيئًا وصولًا لنهاية الموسم الخامس التي يلقي فيها أعظم خطبة ممكنة لأحد أشرار الفن في العصر الحديث.

شيء واحد فقط تحتاج لمعرفته قبل أن نتطرق لتلك الخطبة، وهو أن الرجل حافظ على عادة مهمة طيلة مواسم المسلسل بالتحدث مباشرة للمشاهدين كلما سنحت الفرصة، كلما سار في إحدى ردهات البيت الأبيض الطويلة كان فرانك أندروود يحدثنا عن توقعاته وآماله وخططه ويشركنا في الحدث، فيما يُعرف دراميًا بكسر الحائط الرابع (Breaking The Fourth Wall)؛ أي خرق المعاهدة الضمنية بين المشاهد والممثل التي تقضي بكونهما مشاهد وممثل، لذا فبعد أن ألقى أندروود خطبة “كلنا فاسدون” المعتادة على أعضاء محكمة الكونغرس التي عُقدت للتحقيق في جرائمه، توجه لنا قائلًا:

“لا تنكروا أنكم قد أحببتم ما أفعله، فأنتم لا تحتاجونني أن أقف مدافعًا عن قيمة ما، أنتم فقط تحتاجونني أن أقف.. أن أكون الرجل القوي، رجل الأفعال.. لقد أدمنتم الشعارات والأفعال لدرجة أنه لم يعد يهمكم ما أقوله أو أفعله، فقط يكفيكم أن أفعل شيئًا وستكونون سعيدين بمرافقتي، وحقيقةً أنا لا ألومكم، فمع كل الحماقة والحيرة والتردد في حياتكم لا يوجد سبب لكي لا تعجبوا برجل مثلي.. لن أعتذر، ففي النهاية لا يهمني إن أحببتموني أو كرهتموني طالما أفوز، وحتى لو كانت اللعبة غير عادلة والقواعد قد تم التلاعب بها. 
أهلًا بكم في عصر انتحار المنطق، لم يعد هناك صواب أو خطأ، فقط من هم داخل اللعبة، وهؤلاء الذين خرجوا منها”.

الآن فلتمنح نفسك بضعة دقائق لتفكر في الأمر، هل كان ما أعجبك في هايزنبرغ هو ضعفه الإنساني أم صراخه في وجه زوجته قائلًا: “أنا الخطر.. أنا من يطرق الباب”؟ وولتر وايت الذي يغسل السيارات ويدرس الكيمياء أم هايزنبرغ الذي يقتل تجار المخدرات ويجمع أكوامًا من المال؟ ماذا لو أزلنا غرور جايمي لانيستر وسلطته الكاسحة واكتفينا فقط ببضعة مشاهد إنسانية مع برِيان؟ هل كان الصراع بين جايمي لانيستر الذي يقتل أعداءه في حفل زفاف وجايمي لانيستر الذي يرفض خيانة العهد هو ما أبهرك حقًا، أم حرية الرجل المطلقة في أن يصبح أي منهما وقتما يشاء؟

قد لا يكون فرانك أندروود محقًا 100%، ولكن نظريته هي الأصلب والأكثر تماسكًا بالتأكيد؛ فالملل والجوانب الإنسانية والضعف البشري والرغبة في التمرد على القوالب هي مبررات واقعية فعلًا وتلعب دورًا لا بأس به في القصة، ولكن أثرها لا يقارن بأثر الفشل والتردد والحيرة والخوف والتواكل في حياتنا؛ نفس التردد الذي يجعلك تستمر لسنوات في وظيفة تمقتها، ونفس الخوف الذي يجعلك تتغنى بمحاسن الهجرة دون أن تحاول ملء استمارة واحدة، ونفس التواكل الذي يجعلك تؤجل دراسة ما تحب وممارسة الرياضة والقراءة وقضاء المزيد من الوقت مع عائلتك وحتى الاهتمام بنفسك، ونفس الحيرة التي تكبلك عند كل مفترق طرق وتجعلك تختار الحل الآمن الذي يبقي حياتك على ما هي عليه، وحتى لو كان علاقة عاطفية من طرف واحد أو زواجا بلا مستقبل، وبالطبع نفس الفشل الذي ينتج عن كل ذلك.

أوضاع ينطبق أغلبها على 90% من سكان الكوكب، وفي ظروف كتلك تُصنع مقدسات جديدة خارج النظام الأخلاقي المعتاد، مقدسات كالجرأة والحسم والمخاطرة بل وبلادة المشاعر أحيانًا، أي باختصار كل ما نحتاجه -أو نتخيل أننا نحتاجه- لتصبح حياتنا أفضل مما هي عليه، وعندما نرى الغيلان يطورون تلك الصفات تدريجيًا مع كل عقبة جديدة تواجههم، فإنهم يداعبون خيالنا ويشعروننا بقدرتنا على المرور بنفس الرحلة واكتساب نفس المقومات مع الوقت.. هل تعلم من يقوم بالعكس؟ من يكرس عجزنا ويقيننا بأن الواقع غير قابل للتغيير؟ البطل المدلل الذي يمتلك كل ذلك بداهة وبمجرد ظهوره، البطل الذي يظهر جريئًا حاسمًا مخاطرًا بلا مقدمات وبلا صراع وفقط لأن تلك هي متطلبات الدراما، لقد فهمنا أصل الشر عبر تلك الأعمال ولكن أحدًا لم يشرح لنا أصل الخير أبدًا.

لذا يصبح من السهل -بل والحتمي- أن تنبهر بالرجل الذي أخضع دولة كاملة لإرادته وأنت جالس على مكتبك في قاعة ضخمة تمتلئ بمئات المكاتب الشبيهة، وأن تشعر بالضآلة أمام النصاب الذي خدع العالم وجمع المليارات بينما تجلس أنت في غرفة معيشتك التي تأبى مغادرتها، فالأشرار الجدد يمتلكون كل ما ينقصك لتصبح شخصًا آخر غير ذاتك التي لا ترضيك، بما في ذلك الشر نفسه الذي تكتشف أحيانًا أنك لا تمقته بقدر ما تعجز عنه، فأنت تعلم كيف يمكن لأي شيء أن يبدو مقنعًا من خلف الشاشات، خاصة إذا أضفت له وجهًا معبرًا ونبرة صوت جذابة وعدة عبارات ماكرة قادرة على إنهاء أي جدل أخلاقي محتمل.

https://shar.es/a00LA5