التصنيفات
مقالات الضيوف

تفضيل الثروة على المجد

عندي خطة أحسن وأفكار أفضل

في العام الماضي، انقلبت الدنيا بخصوص قيمة عقد كيليان مبابي الخيالية مع باريس سان جيرمان، وتفضيله النادي الفرنسي على ريال مدريد للأسباب المالية.

قرأت بعض المنشورات التي تنتقص من مبابي لأنه ارتكب غلطة شائعة: تفضيل الثروة على المجد (وهذا مع أن الانتقال لريال مدريد لن يكون مجانيًا وسيأتي بالثروة أيضًا، لكنها ثروة أقل). هل الملايين الزائدة تستحق هذه “التضحية” من مبابي؟

لكنني فكرت في هذا الأمر: ما معنى أن يمتلك الإنسان كل هذه المليارات؟ هذا شعور لا أعرفه، وغالبًا لن أعرفه أبدًا، لا أنا ولا من يقرأ هذا المنشور، مهما كان غنيًا، لأن المسألة نسبية.

فكر في هذا الأمر: الفكرة الرئيسية التي تحكم حياتنا هي كثرة الرغبات وندرة الأموال. يدفعنا هذا النقص في الوسائل إلى الاختيار من بين البدائل، وكل مساعينا في الحياة تهدف إلى زيادة المال لتزيد مساحة خياراتنا.

لكن ماذا لو أن هذا العامل اختفى تمامًا؟ ماذا لو أن عندك من المال ما يكفي لتحقيق أي رغبة من دون أن تفكر في رصيدك في البنك؟ سوف يختلف كل شيء في حياتك، وليس الاختلاف راجعًا لزيادة حريتك في فعل الأشياء فحسب، وإنما في طريقة تفكيرك نفسها. سوف تتحرر من هذا العبء الذي يحكم كل تصرفاتك تقريبًا! سوف تكون إنسانًا آخر. شيء ساحر ورهيب لا يمكن أن تدرك معناه حق الإدراك.

طبعًا ليس الغرض من كلامي الدفاع عما فعله مبابي. في الحقيقة، لو كنت مكانه لاخترت ريال مدريد طبعًا من دون تفكير.

لكن هذه هي النقطة الأساسية: إن قولي “لو كنت مكانه” قول مضلل، لأنني لست مكانه، ولا أعرف ما معنى أن أكون مكانه إلا على سبيل التخمين والأفكار النظرية، ولو حصل وأصبحت مكانه، فإنني لن أكون الشخص ذاته الذي يكتب هذه الكلمات، سوف أكون شخصًا آخر لكي أصبح مكانه، وبالتالي لا معنى لكلامي السابق. توحي هذه العبارة المضللة بزوال الموانع والفروقات وإمكانية هذا النوع من التفكير.

والغريب أنّ معرفتك بهذه الموانع الآن لن تنفعك في تصور الأمر على حقيقته. يشبه الأمر النقطة العمياء عند سائقي الشاحنات: معرفتك بوجودها لن تؤدي إلى رؤيتك إياها!!

والآن فكر في أمر آخر: أثر الصحة والحيوية (وهما أمران مختلفان) على قرارات الإنسان وحياته. كلما تقدم الإنسان في العمر قلت حيويته وتدهورت صحته. كلنا نعرف ذلك نظريًا، وكلنا جربنا المرض، لكن يصعب على الإنسان في حالة وفور الصحة وغليان الطاقة أن يتصور زوال هذا الحال.

زمان، أيام الطفولة والصبا، كنت ألعب في الشارع من الصباح إلى الليل. والآن، صرت أكافح للالتزام بلعب الكرة مرة في الأسبوع. لم تعد عندي من الحيوية ما يكفي لمثل هذا النوع من الأنشطة. وأذكر أنني مرة سألت أحد الأشخاص الأكبر سنًا عن لعب الكرة فأخبرني أنه صار لا يلعب فتعجبت جدًا وسألته: طيب ماذا تفعل مع أصدقائك؟ قال: نلتقي على القهوة ونتكلم!! لم أصدق أبدًا أن من الممكن أن يحدث لي ذلك.

الآن أقابل أصحابي في أي مكان. نجلس على المقهى ونتسامر. وهذا ممكن لأن جسمي يحملني، لكن كيف سيكون الحال لو أنني، لا قدر الله، أصبت بخشونة في المفاصل مثلاً؟ ماذا لو أصبحت الحركة ثقيلة أو مؤلمة؟ سوف يقل حماسي بالتأكيد للخروج من البيت، وسوف تتأثر صداقاتي لأن الصداقة نبته تحتاج إلى الري بالتزاور والمقابلة. ولهذا تنكمش صداقات الإنسان عند التقدم في السن، ولا يعود له إلا الجيران وأصدقاء الجامع.

ولهذا، ربما، تنحو كثير من أفكار الناس إلى المحافظة والرغبة في الاستقرار وتجنب المخاطر مع التقدم في العمر، انعكاسًا لحالة الجسد الذي قلت حيويته وتحمله للأخطار والمتاعب.

ولهذا أيضًا يكون التقدم في العمر مؤلمًا لأنه انكشاف لحقيقة مفاجئة يصعب تصورها وهي موقوتية ما ظنه الإنسان دائمًا لا انفكاك عنه.

كل هذا معروف، لكن من يستطيع أن يتصور شخصيته وآراءه ومشاعره حينما يصبح شخصًا مسنًا بطيء الحركة قليل المجهود؟ هذا مثال آخر مرعب على شيء أساسي لا يراه الإنسان ولا يدرك أثره على كل شيء. لو أزلت الصحة أو الحيوية من حياة الإنسان سوف يختلف كل شيء من حوله. سوف يصبح إنسانًا آخر.

وحين يكون الإنسان صائمًا، ربما يعجز عن التفكير في أي شيء سوى الطعام والشراب. يتخيل نفسه يأكل كميات رهيبة لساعات. مع أن هذا الإنسان يعرف معنى الشبع، وهو نفسه كان ممتلئًا بالطعام والشراب منذ ساعات، وكان صائمًا بالأمس، ويعرف أن الأكل لن يستغرق سوى دقائق قليلة بعدها تزول وحشة الجوع وربما اشمأزت نفسه من منظر الطعام.

ومع كل هذا، لا يستطيع الإنسان الجائع وقت الصيام أن يقدر الأمر حق قدره. لا يستطيع أن يفكر في نفسه بعد الإفطار بصورة طبيعية، فالإنسان وقت الصيام محبوس في حالة الجوع والعطش.

فليس الأمر أنّ الإنسان لا يستطيع أن يضع نفسه مكان مبابي بملياراته ولا مكان نفسه في المستقبل عند زوال صحته، بل إنه أيضًا لا يستطيع حتى أن يضع نفسه مكان نفسه بعد ساعات وهو في حالة الجوع الشديد!

ضربت كل هذه الأمثال تمهيدًا للحديث عن شيء أخاف من الحديث عنه، وهو معضلة الشر: الحياة مؤلمة وقاسية. ولا أحسب أنّ إنسانًا في هذا العالم لم يسأل نفسه ولو للحظة أمام كارثة ما: لماذا؟ ما سبب هذا وما الحكمة منه؟

ليس الغرض تجريم التساؤل، لكن الإشارة إلى أن هذا السؤال عن حكمة الله (بمعنى أسباب فعل الله وتبريراته) كثيرًا ما ينطوي على الاعتقاد بأنّ الإله إنسان يفكر مثل البشر، فليس إلا إنسانًا على نطاق أكبر وصلاحيات أوسع.

ويستبطن هذا السؤال معنى آخر قلما يصرح به القائل (لنفسه قبل الآخرين): يود الإنسان أن يقول: لو كنت أنا في مكان الله لفعلت غير هذا! عندي خطة أحسن وأفكار أفضل.

يتخيل الإنسان نفسه، ولو بشكل غير واع، مديرًا للعالم وإلهًا له.

وبصرف النظر عن مناقشة صواب هذه الاعتقاد في مهاراته الإدارية، وإغفاله لمسألة العلم المحيط بالأشياء، واعتبار الإنسان الناقص المحدود بقيدي الزمان والمكان نفسه المعيار للحكم على الأشياء، فإن هذا التخيل يكشف عن أنه لا يفهم رتبته في الوجود، أنه ممكن الوجود، ورتبة الإله الواجب الوجود. يعني لا يفهم معنى الألوهية أصلاً، ولا معنى صفات الله. يعكس هذا التفكير تصورًا غريبًا عن أن الإله هو إنسان كبير، والإنسان إله صغير.

لكي يصح هذا التصور ينبغي أن يضفي الإنسان على نفسه في الخيال صفات مطلقة هو لا يدرك معناها، ولا يمكن أن “يكتسبها”، لأن هذا معنى أن يكون إنسانًا مخلوقًا.

وتلك هي أكبر درجات التصور الزائف وخداع النفس: أن يتصور ممكن الوجود أنه واجب الوجود. ولعل هذا من معانى حديث “من عرف نفسه عرف ربه”: من عرف رتبته في الوجود عرف استحالة أن يتصور نفسه واجب الوجود.

ولعل هذا مما يهدئ خواطر الإنسان في الأوقات الصعبة والظروف الأليمة: أن يذكر نفسه بأنه ليس إلهًا، ولن يكون إلهًا. فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط.

المصدر