التصنيفات
مقالات الضيوف

المشكلة أم الحل

حينها فقط سيكون من الممكن أن يصبح الحل لا المشكلة، أما الإجابة العملية فستظل مستحيلة

في السابع والعشرين من أبريل/نيسان 2014، سدد جيرارد 8 مرات في مباراة واحدة، ربما للمرة الأولى والأخيرة في مسيرته. كان هذا حدثا استثنائيا، معدل تسديدات جيرارد لم يتجاوز 3.2 تسديدة في المباراة قط منذ بدأت أوبتا تسجيل الإحصائية، وبشكل عام كان متوسطه في كل البطولات يبلغ 2.2 تسديدة في المباراة، أي أن جيرارد في ذلك اليوم قرر أن يسدد أربعة أضعاف عدد تسديداته المعتاد.

لماذا كان ذلك مهما في هذه الليلة تحديدا؟ لأكثر من سبب، الأول أن هذه التسديدات الثمانية لم تنجح في تسجيل هدف واحد، بل أتت بواقع تسديدتين ارتطمتا بأجسام المدافعين، وثلاثة خارج الإطار، وثلاثة أخرى أنقذها الحارس، والسبب الثاني يفسر الأول، إذ إن 7 منها كانت من خارج منطقة الجزاء، والثالث يفسر الأول والثاني، إذ كانت تسديدات جيرارد السبعة من خارج المنطقة، أكثر مما حاوله جميع لاعبي الخصم مجتمعين من خارج المنطقة، أما السبب الرابع فهو يفسر كل ما سبق، لأن هذا المعدل الاستثنائي أتى في مباراة استثنائية بدورها، مباراة تشيلسي المشؤومة في أنفيلد التي شهدت ضياع اللقب المنتظر بعد تعثر القائد.

* رجال عظماء

قبل اختراع كرة القدم بعقود، وتحديدا في القرن التاسع عشر، كان من المعتاد للمثقفين الاهتمام بالعديد من مجالات الدراسة في الوقت نفسه مقارنة بالزمن الحالي، وأحد هؤلاء كان الإسكتلندي توماس كارلايل، الذي وُصف بأنه كان مؤرخا ورياضيا وفيلسوفا وكاتبا وباحثا في الوقت ذاته. طبعا هذا إن جاز أن نعتبر الرجل الذي نادى بإعادة العبودية إلى جزر الهند الغربية فيلسوفا بأي معنى، ولكن الجميع يتغاضى عن هذه الفكرة، وأفكار أخرى تخبرنا أن كارلايل لم يكن أفضل قدوة لشباب هذا الزمن، لصالح فكرة الرجل الأهم على الإطلاق، والتي ما زالت تُناقش حتى الآن، وهي نظرية “Great Man History”، أو تاريخ الرجال العظماء.

من وجهة نظر كارلايل التي عرضها في كتابه “الأبطال وعبادة الأبطال والبطوليون في التاريخ (On Heroes, Hero-Worship & The Heroic in History)”، فإن التاريخ عبارة عن أحداث، والأفراد يؤثرون في هذه الأحداث، وبشكل خاص، يتحدث كارلايل عن الأفراد الاستثنائيين الملهمين أصحاب الشجاعة النادرة والذكاء العالي، والأقدر على التأثير في الجموع ومجرى التاريخ وأحداثه، ومن ثَم يصل كارلايل لخلاصته في النهاية؛ التاريخ، بكل وقائعه المهمة وحروبه وانتصاراته وهزائمه وابتكاراته، هو ببساطة عرض متوال ومتداخل لقصص حياة هؤلاء الأبطال. باختصار، هم التاريخ، والتاريخ هم.

بالطبع نالت نظرية كارلايل من الانتقادات ما نالت، ليس فقط لأنها تُقصي النساء من المعادلة التاريخية تماما، وليس فقط لأنها تفترض أن هؤلاء الرجال المؤثرين في التاريخ، سلبا وإيجابا، جديرون بالإعجاب في الأغلب الأعم، ولكن أيضا لأنها تعزل الفرد عن الجماعة، وتفترض أن أفكاره وشخصيته تتطور في سياق منفصل، وتضعه في مواجهة المجتمع، وهو ما اختصره الفيلسوف وعالم الاجتماع الإنجليزي “هربرت سبنسر” في عبارته الشهيرة: “قبل أن يعيد الرجل العظيم تشكيل مجتمعه، فإن مجتمعه يشكله ابتداءً”.

لكن انتقادات سبنسر وغيره للنظرية لم تمنعها من أن تحصل على تأييد مجتمعي كبير، وللمفاجأة، كان أكبر مروجيها هم أكثر المتضررين منها، أولئك الذين تعزلهم النظرية عن التأثير في أحداث التاريخ الضخمة وتعتبرهم مجرد أتباع، مفعول بهم، مسحورين بعبقرية الرجال العظماء وقدرتهم الخارقة على التأثير. في الواقع، المفارقة الأكبر هنا أن حرب سبنسر وأمثاله لم تكن ضد كارلايل، بل في الحقيقة كانت ضد الجموع التي تدافع عنه، الجموع التي تؤمن بنظرية كارلايل التي تهمشها، وبالعكس، ترفض أفكار سبنسر.

السبب في ذلك هو مفارقة فلسفية أخرى تقول إن السبب في جنوح الجموع لكارلايل على حساب سبنسر قد يكون رفض هذه الجموع تحمل جزء من مسؤولية وصول هؤلاء الرجال”العظماء” لمواقعهم، والتي مكنتهم من التأثير في التاريخ بهذا الشكل، أو ربما لأن هذه الجموع يصعب تنظيمها وتوحيد أصواتها في فكرة أو نظرية متماسكة تعبر عن نفسها بوضوح، وهذا التفكك هو ما يسمح للكتل الصلبة المصمتة باختراق صفوف الجماهير بسرعة، أو ربما العكس، أي أن هذه السيولة هي ما يدفع الجماهير للبحث عن نقطة ارتكاز.

* من باريس إلى مانشستر

حتى بغض النظر عن الظروف والملابسات الخاصة بكل منهما، فإن هناك اختلافا واضحا في ظروف كل من الثنائي ميسي ورونالدو في باريس ويونايتد على الترتيب؛ فانتداب الأول لباريس يعبر عن تخمة تكتيكية وفنية بلا معنى، وبأي معيار اقتصادي عقلاني، لن يتمكن الأرجنتيني أبدا من إضافة ما يوازي راتبه البالغ 35 مليون يورو سنويا، لسبب بسيط وواضح هو أن وجود ميسي، والتداخل بين أدواره وأدوار نيمار، ورغبة الأخير في الانفراد بالنجومية، كان هو ما دفع البرازيلي للرحيل إلى باريس ابتداءً.

النتيجة أن ميسي انتقل من وضعية يُقدر فيها كل ما يفعله، باعتباره يلعب مع فريق متهالك على المستوى الجماعي في برشلونة، وغير قادر على مقارعة الكبار، ولا يجرؤ أحد فيه على انتقاد مجهوداته البدنية أو تراجع معدلات ركضه، إلى وضعية يُقارن فيها مع نجم آخر في أفضل سنوات عمره الفنية والبدنية، فيصبح السؤال الأهم: ما الذي يمكن لميسي في الرابعة والثلاثين من عمره أن يضيفه لفريق يملك نيمار في التاسعة والعشرين من عمره؟ وهل يستحق الأمر إعادة تنظيم الفريق لاستيعاب الثنائي في تشكيل واحد؟ هل هناك شكل تكتيكي متزن ومُستدام يسمح للثنائي بالتألق أصلا؟

بشكل ما، تبدو الإجابة في باريس أوضح وأسهل منها في مانشستر، إذ إن الظروف مهيأة لكي يعامل ميسي بوصفه دخيلا على السياق، خاصة أن أسلوب لعبه ومهامه المعتادة تتطلب تدخلا أكبر في العملية التي تؤدي للهدف، وهو ما يبدو بلا داع لفريق حقق أكثر مما حققه برشلونة أوروبيا في الأعوام الأخيرة، وليس بحاجة إلى إنقاذ فعلي من أي نوع، على عكس يونايتد، الذي قد يكون المعادل الكروي لحالة السيولة التي تحتاج إلى نقطة ارتكاز، ربما إن استثنينا فيرنانديش الذي كان نقطة الارتكاز تلك طيلة موسمين ونصف، ويلعب في مركز مختلف كليا عن رونالدو، وبأدوار مكملة له، بالإضافة لكون دور رونالدو نفسه مقصورا على مرحلة واحدة من اللعب، يسهل له البروز فيها إن حصل على التمويل المناسب.

رغم هذا الاختلاف في ظروف الأرجنتيني والبرتغالي، فإن نظرية كارلايل ما تزال حاضرة في سياق كل منهما ومحيطه، خاصة في حالة رونالدو، الأقدر على التأثير في يونايتد بسرعة وكفاءة نسبية بالنظر إلى ظروف الفريق وسماته الشخصية وأسلوب لعبه، ولكن المشكلة هنا ليست في إيمان الجموع بقدرة ميسي ورونالدو على إنقاذ الفريق في الأزمات وتشكيل الأحداث والتاريخ، بل في الأنماط السلوكية التي تنتج عن ذلك في الملعب.

* عقدة البطل

تعتقد الدكتورة إيرين ليونارد، الطبيبة النفسية الحاصلة على عدة جوائز دولية عن مؤلفاتها وأعمالها، أن هذه السياقات من التمجيد الجماهيري تنتج شخصيات ذات طابع نرجسي أحيانا، وهذه النرجسية تفرز عقدتين سلوكيتين تؤديان دورا ضخما في تصرفات “الرجل العظيم” طبقا لنظرية كارلايل، الأولى هي “عقدة البطل (Hero Complex)”، والثانية هي “عقدة الضحية (Victim Complex)”.

غالبا، لا تعرف ليونارد ميسي ورونالدو، ونحن لسنا بصدد تحليل شخصيتهما، فبينما يُظهر رونالدو ميولا للنرجسية كما يصفها الطب النفسي، فإن ميسي ربما لا يظهرها، ولكن عقدة البطل تصف حاجة الشخص إلى تصدر المشهد وإنقاذ الموقف أيا كان، أما عقدة الضحية فتصف حاجة النرجسيين للوم الآخرين عند الفشل في ذلك.

ما تصفه الدكتورة ليونارد قد لا ينطبق على الثنائي بالدرجة ذاتها، ولكنه ينطبق على جمهورهم بدقة شديدة، فالثنائي يلعب كرة القدم وهو يعلم أن هناك درجة ما من التسامح مع أخطائهم وإخفاقاتهم، وكذلك درجة من نسبة الفضل إليهم في كل الإنجازات. هذه الدرجات ليست متماثلة قطعا، ولكنها موجودة بلا شك.

هذا ربما يدفعهم أكثر نحو محاولة التصرف على أنهم أبطال طوال الوقت، في دائرة مفرغة تغذي نفسها بنفسها، وهو الأمر الذي دفع روري سميث، محرر نيويورك تايمز، لطرح السؤال الأهم على الإطلاق في هذا السياق: هل يجعل ذلك ميسي ورونالدو “رجالا عظماء” بتعريف كارلايل؟ والأهم، هل يجعلهما ذلك الحل والمشكلة في الوقت ذاته؟ هل هناك فائدة حقيقية من إعادة بناء الفريق، أي فريق، لحساب رجل واحد؟

بمعنى آخر، هل أصبح الثنائي، في هذا العمر، وفي هذه المرحلة من مسيرتهما، حلا لمشكلة صنعاها بنفسهما؟ هدف ميسي في سيتي كان قيما لأن المواطنين (السيتي) سيطروا على المباراة طولا وعرضا وصنعوا من الفرص ما كان يكفيهم للفوز، ولكن هل كانت هذه الدرجة من السيطرة ممكنة لو كان تشكيل باريس أكثر توازنا وأكثر قدرة على تنفيذ الضغط ولم يسمح لغوارديولا بكل هذه المساحة أثناء التحضير؟ الفكرة ذاتها قُتلت بحثا من محللين آخرين فيما يخص يونايتد، أشهرهم كان مايكل كوكس الذي انتقد الثنائي لعجزهما عن أداء أدوارهما الدفاعية، والذي خصص رونالدو جزءا من مقابلته مع سكاي للرد عليه ضمنيا بعبارات مثل “أفضل طالب في الفصل لا يجب أن يهتم بما يقوله الفشلة”.

أفضل طريقة للحديث عن ميسي ورونالدو هي ألا تتحدث عن ميسي ورونالدو، هذه هي النصيحة التي اتبعها سميث في توضيح فكرته بذكاء شديد، نازعا فتيل التوتر والتعصب والتنافس الذي قد يعمي قراءه عن تفهم وجهة نظره، ولتوضيح ما يقصده، ضرب الرجل مثلين مهمين، الأول هو ما قدمه بيكام في المباراة الفاصلة أمام اليونان في الطريق للتأهل لمونديال 2002، والثاني، كما توقعت، هو عثرة جيرارد الشهيرة أمام تشيلسي في 2014.

* عثرة البطل

بيكام كان يحمل إرثا ثقيلا من عقدة الذنب بعد طرده أمام الأرجنتين في 1998، وهو إرث لم يكن يتناسب مع نجم بحجمه، ولذلك، في المباراة أمام اليونان، قرر بيكام أن الخلاص لن يأتي إلا بتصدره المشهد، وفي 4-4-2 المعتادة للإنجليز آنذاك، شغل بيكام مركز الجناح الأيمن على الورق فقط، بينما في الملعب كان الرجل في كل مكان، يقطع الكرات، ويفسد الهجمات، ويقود التحولات، ويصنع الفرص، ويحاول على المرمى، ويتحكم في اللعب. كان ذلك حتى أتته لحظة الخلاص في النهاية، والتي سمحت له بتسجيل هدف التعادل في ملعب أحلامه، أولد ترافورد، من ركلة حرة للمفارقة، كانت وضعيتها صعبة لدرجة أنه لم يكن أحد ليسجلها سوى بيكام فعلا.

ما يطرحه سميث قد يكون أغرب ما ستسمعه عن هذه المباراة في حياتك، صحيح أن بيكام كان البطل في اللحظة الحرجة، ولكنه أيضا كان أحد أسباب تعقد المباراة ووصولها لهذه اللحظة؛ لأن ما بدا له تصرفات بطل، مثل الانتشار في كل أرجاء الملعب، والمشاركة في كل لعبة، والحضور في كل ثنائية، كان في الحقيقة يضر بتمركز باقي اللاعبين، ويعبث بخطة اللعب، ويفسد تنظيم الإنجليز أمام فريق منظم للغاية نجح بعدها بعامين في الفوز بلقب اليورو، أي أن ما كان يمكن اعتباره مكاسب شخصية لبيكام في هذه المباراة، تمنحه الخلاص من انتقادات الجماهير بعد واقعة 1998، لم يكن بالضرورة من مكاسب الإنجليز على صعيد الفريق، بل ربما العكس.

محاولة بيكام تحميل نفسه فوق طاقتها كانت استجابة للحظة أخرى حملته فيها الجماهير فوق طاقته أيضا في 1998، واعتباره مطالبا وحده بانتشال المنتخب من أزمته في 2002 كان نتيجة لاعتباره مسؤولا وحده عن خروجه في 1998.

السؤال هنا: ما المشكلة؟ بيكام كان البطل فعلا!

المشكلة كما يشرحها سميث تقع في المثال الثاني، أي ما يحدث عندما لا يتمكن البطل المزعوم من تحديد مصير كل شيء في لحظة واحدة حرجة، أو الأسوأ، أن تنتهي محاولاته بإفساد كل شيء في لحظة حرجة أيضا، مثلما وقع مع جيرارد في 2014.

في الواقع، متابعة أداء جيرارد في هذه المباراة بمعزل عن لقطة التعثر أمام دمبا با، كفيلة بتأكيد النظرية، إذ سعى قائد ليفربول طوال المباراة نحو تلك اللحظة التي يتحول فيها لأحد رجال كارلايل العظماء، وحسم الفوز على تشيلسي العنيد بمجهود فردي من تسديدة بعيدة من خارج المنطقة، ينسب إليه الفضل فيها كاملا، ويتحقق له الخلاص بعد ربع قرن بلا لقب دوري واحد، لذلك كانت النتيجة إنهاءً مبكرا للعديد من الهجمات، ونزوعا إلى الحل الفردي عوضا عن الجماعي، وقد يكون ذلك أحد أسباب خسارة ليفربول للمباراة كذلك. الدليل أن الأمر لم يتكرر في المباراة التالية أمام كريستال بالاس، بل في الواقع حدث العكس بالضبط، جيرارد لم يسدد ولا مرة، واكتفى بصناعة هدفين من ثلاثية ليفربول

عقدة البطل في أوضح تجلياتها.

لا يعني ذلك أن كل بطل نرجسي بطبيعة الحال، أو أن دوافع جيرارد كانت تفضيل ذاته على الفريق، ولكنه ربما يؤكد صحة انتقادات سبنسر لنظرية كارلايل، إذ إن جيرارد وميسي ورونالدو وبيكام صنعتهم سياقاتهم بدرجة أو بأخرى، وكانوا مدفوعين جماهيريا نحو البطولة وما تصحبه من ضغوطات، سحقتهم أحيانا وسحقت فرقهم في أحيان أخرى، والأهم أنهم لم ينتزعوا مساحات تأثيرهم بأفعالهم فقط، بل إن جزءا من هذه المساحات مُنح لهم طواعية بسبب الآمال المعقودة عليهم في أوقات، وبسبب تواكل الزملاء أوقاتا أخرى، وبسبب قوة تأثيرهم وجاذبيتهم الضخمة في غير هذا وذاك.

الصراع قديم، ليس وليد اللحظة، وعلى الأرجح سيظل قائما حتى يرث الله الأرض وما عليها، وستظل الإجابة النظرية السهلة أن أي نجم أو “رجل عظيم” -بتعبير كارلايل- يجب أن يرافقه فريق عظيم بدوره، وعمل جماعي عظيم، يجعل “الرجل العظيم” إضافة له، لا بديلا عنه، حينها فقط سيكون من الممكن أن يصبح الحل لا المشكلة، أما الإجابة العملية فستظل مستحيلة؛ لأنها ببساطة تتطلب اقتناع الجمهور والمدرب والإعلام بذلك.

المصدر