التصنيفات
مقالات الضيوف

التشوّه النفسي

في العلاقات التي تدور في جوّ مضطرب ومناخ سامّ

كانت لنا -في إحدى الفترات- جارة ثقيلة السمع، وكانت أمي تحب قضاء الوقت معها لكنها كانت تضطر إلى رفع صوتها عند محادثتها لتتمكن الأولى من سماعها، شيئا فشيئا أصبح صوت أمي مرتفعا طول الوقت، واستمرت لسنوات تحاول إرجاعه إلى المستوى الطبيعي إلى أن تمكنت من ذلك بصعوبة..

تثير هذه الذكرى لديّ أمرًا أحذر منه باستمرار، في أي علاقة سيئة أشهدها لا يكون اهتمامي منصبًّا على معاناة أحد الطرفين، فاستمراره يعني أن بإمكانه التحمل حتى الآن، وفي العادة سيظل يحاول رفع الظلم عن نفسه وإيصال صوته إلى الآخر وتحسين العلاقة واستشارة المختصين..

ما يرعبني وأحذر منه كثيرا هو التشوّه النفسي..

(طبعا ما حكيته عن أمي لا يمثل علاقة سيئة، لكنه يوضح اضطرار طرف ما للتغير ليتمكن من الاستمرار، فيصعب عليه استعادة طبيعة ما تغيّر بعد ذلك..)

في العلاقات التي تدور في جوّ مضطرب ومناخ سامّ يضطر المتضرر إلى التغيّر للتأقلم مع ما يقع عليه من أذى، وشيئا فشيئا يتحول ذلك التأقلم إلى تشوّه في الشخصية، ويتمثل ذلك في تغيرات سلبية في في طريقة النظر إلى الأمور، في التفكير، في السلوكيات، في ردود الأفعال، في القرارات، وحتى في المبادئ والمعتقدات..

ويستفحل هذا التشوّه في الشخصية كلما طال الوقت وتراكمت السنين حتى يستحيل علاجه وتصعب العودة إلى الشخصية الأصلية حتى بعد زوال المؤثر..

شَهدْت الزوجة التي تسببت حياة القهر التي عاشتها لفترة طويلة في إكسابها طابعا عدوانيا وإفقادها روح التسامح، فأصبح تعاملها مع الجميع -بعد انفصالها- مليئا بالتوتر والعصبية، وباتت تفتقر إلى روح التضحية والتفاهم حتى في طريقة تفكيرها، مع أنها كانت على النقيض قبل تلك الحياة..

وشهدْت الزوج الذي تحمّل العيش في ظروف من التسلط والسيطرة تسببت في تحوله إلى شخص بلا طموح أو تطلعات وبلا مبالاة بعد أن كان شعلة نشاط وحيوية ومفعما بالأمل، يعيش بعد الانفصال يوما بيوم، ويعتمد في معيشته على وظيفة روتينية، ولم يعد شيء مما كان يثير حماسه من قبل يفعل ذلك الآن..

وشهدت أمورًا شبيهة في مجال الوظيفة، والإدارة، والصداقة، والشراكة، تقريبا في كل مجالات العلاقات الاجتماعية..

أعتقد أن هذا هو الأذى الحقيقي، أن يتجاوز الأمر مجرد أن “تخرج أسوأ ما لديك” إلى أن “تتحول إلى ما لا ترضى أن تكونه”.. وكل منا لديه مقياس هام: الرفقة التي تحبه بلا غرض، هذه الرفقة هي المرآة التي ننظر فيها لنرى كيف كنا، وكيف أصبحنا..

المصدر