التصنيفات
مقالات الضيوف

إحساس كره كل الناس على السوشال ميديا

حقيقية تمامًا،
علمية تمامًا،
منطقية تمامًا،
ومش طبيعية إطلاقًا.

ساعات، بلا قرار واضح منك،
بيجيلك إحساس إنك بتكره كل الناس على السوشال ميديا،
وبتكرههم بلا تمييز، أو على الأقل متضايق من وجودهم.

أحيانًا ممكن يجيلك نوبات غضب سببها كثرة المعلومات اللي الناس بتشيرها أونلاين عن حياتها،
رغم إنها في المجمل معلومات غير مؤذية إطلاقًا،
ومش المفروض تغضبك، لكنها بتغضبك وأحيانًا بتخرجك عن شعورك.

فلان اتجوز،
علان اتخرج،
ترتان غير مكان شغله،
قردان دخل في علاقة عاطفية جديدة..
سيل مزعج لا يتوقف من المعلومات وأكبر من قدرة أي بني آدم على احتماله، وغضبك منه منطقي،
مش طبيعي أكيد ولا هو ده المفروض يكون شكل علاقتك بالناس،
لكنه منطقي قياسًا بأسبابه.

بعد ما كانت السوشيال ميديا مهربك من الحياة الواقعية تحولت لحياة واقعية أكتر سماجة وسخافة.
بعد ما كنت بتتهرب من إنك تبارك لابن خالتك على نجاحه في الثانوية العامة مثلًا لأن بقى لك كتير ما كلمتوش والموقف ممكن يكون محرج بالنسبة لك، أو لأنكم كنتوا مع بعض كتير وإنتو صغيرين لكن الحياة فرقتكم وبرضه الموقف ممكن يكون محرج بالنسبة لك،
واللي هو شخص إنت المفروض بتشوفه بانتظام حتى لو من السنة للسنة، وبينك وبينه صلة قرابة، لقيت نفسك مضطر تبارك لعشرات ما تعرفهمش على السوشيال ميديا على أحداث ما تهمكش،
خاصة إن حتى لو قائمة أصدقائك على فيسبوك محدودة فهي عمرها ما حتقل عن 200 بني آدم مثلًا.

إنت ما تعرفش 200 بني آدم في حياتك اليومية،
أو تعرفهم لكنك إنت اللي بتتحكم في مدى احتكاكك بيهم،
وده اللي ما بيحصلش على السوشيال ميديا أبدًا،
بمجرد ما بقيتوا أصدقاء على فيسبوك مثلًا،
بقى قدامك حل من حلين متطرفين،
إما إنك تعرف كل همسة ولمسة عملها البني آدم ده في حياته،
أو إنك تلغي متابعته وتنقطع عنه تمامًا وتنساه،
وبالتالي تخسر أي شيء كان بيشاركه الشخص ده وكان مهم ليك فعلًا.

ده كمان بيحصل من غير ما نجيب سيرة قدرة الخوارزميات المذهلة على إنها توصلك بناس علاقتك بيهم لا يمكن تكون علاقة إجتماعية أصلًا،
لكنها علاقة شغل أو خدمة معينة مقابل أجر معين،
أكيد إنت قابلت مرة في قائمة الأصدقاء المقترحين حساب الراجل اللي بتصلح عنده عربيتك مثلًا، أو مدرسة ابنك/بنتك في الحضانة،
مع إنهم أشخاص ما يهمهمش إنك تعرف عن حياتهم ولا إنت يهمك تعرفهم عن حياتك، مش لأنكم كلكم عديمي الذوق،
بس لأن لا الحياة ولا الوقت يسمحوا بالدرجة دي من التعمق في معرفة كل واحد كلمته في التليفون أو عملك خدمة أو شغل.

إيه سبب الغضب ده؟
أسباب كتير، أولها هو الوفرة المؤذية،
في تلتميت واحد بيتخرج في نفس اللحظة فكلهم بيشيروا الخبر في نفس الوقت، دي الوصفة المثالية عشان تكره التخرج والشخص والكلية والسيرة كلها..
دي لو نكتة بتموتك من الضحك مش مجرد خبر إن حد بيتخرج حتزهق منها بعد المرة الرابعة أو الخامسة،
ما بالك بإن كل الشباب اللي عندك بيتخرجوا في نفس الوقت،
بيشتغلوا في نفس الوقت،
بيدخلوا الجيش وبيخرجوا في نفس الوقت،
بيتفاعلوا مع هدف/مباراة/مأساة في نفس الوقت؟
وغالبًا عشان يعملوا كل ده بيستخدموا نفس النكت والإيفيهات،
وبيقولوا نفس المقولات المقتبسة عن مشاهير،
وبيدعوا نفس الأدعية الدينية.

الوفرة في ردود الأفعال بتخدرك وبتلغي استثنائية الحدث مهما كان استثنائي فعلًا ومهم لصاحبه.

مش بس كده، دي بتخليك تحس إن ردود الأفعال على كل شيء مبالغ فيها، وإن الحدث نفسه مبالغ فيه، وإنه ما يستحقش كل ده،
ومع الوقت مفيش حاجة بتبقى مستحقة أي حاجة،
وممكن تحس إنك عايز الناس تسكت تمامًا ما تشاركش أخبارها وتفاصيل حياتها، وتكرههم لو عملوا كده طول الوقت.

بالمناسبة، عشان السبب ده تحديدًا،
بيحصل كتير إن أي حدث أو واقعة منتشرة تمر بنفس المراحل المملة؛
لو فرضنا إن في فيديو انتشر لوحد بيضرب عيل صغير بعنف مثلًا، فحتلاقي كل الناس بتعلق على الواقعة في نفس الاتجاه في نفس اللحظة وبكثافة شديدة جدًا،
ده بيحسس المتابعين اللي ما علقوش إن رد الفعل مبالغ فيه مهما كان مبرر ولمجرد إنه كتير وكثيف ومكرر،
فبالتالي بيخرج تيار معاكس يبرر اللقطة أيًا كانت،
أو يفترض إن الطفل ده قبلها ضايق الراجل أو استفزه وأكيد ده كان السبب إنه ضربه بطريقة عنيفة،
وحتلاقي نفس الجمل بتتكرر على وقائع مختلفة الحجم والسياق والتأثير؛
“مش للدرجة دي يعني”..
“أنا كنت بأتضرب بالحزام وأنا صغير عادي”..
“عندنا في (..) بيحبسونا في أوضة الفران”..
“أستر عليه ما تفضحوش ممكن يكون ابنه وبيأدبه”..إلخ
وهو ممكن يكون ابنه وبيأدبه،
وممكن يكون ده أب رائع بس في لحظة خرج عن شعوره وعمل حاجة كارثية عمره ما عملها وما يستحقش يتقيم على أساس اللحظة دي بس، ممكن حاجات كتير،
لكن اللي بيخليك تناقش الاحتمالات الكتير دي مش رغبتك في التقييم العادل للقطة، لكن رغبتك في قمع الموجة الأولى اللي خرجت شديدة وقوية وكثيفة، لأنها غمرتك وحسستك إن رأيك مش مهم والقرار اتاخد جماعيًا خلاص من غير ما حد يرجعلك،
ولأنها ضايقتك وحسستك إن كل الناس عليه..

و”كل الناس عليه دي” حتحصل على السوشيال ميديا بس،
ولأن الناس كتير وبس،
لكن كل رد فعل منهم لوحده منطقي وطبيعي،
إنت حسيت إنه مبالغ فيه لأنهم كلهم قالوا نفس الحاجة في نفس اللحظة فقط لا غير.

السبب التاني هو إن كتير من المعلومات دي مش المفروض تتشير على السوشيال ميديا أصلًا.
مفيش قانون أو كود أخلاقي حتى بيمنع ده أو بيوصمه،
لكن مش هي دي المشكلة،
هي مش المفروض تتشير مش بس عشان بتضايقك إنت،
لكن عشان مضرة لصاحبها أصلًا.

مشاركة المعلومات الشخصية والإنجازات الحياتية مهما كانت صغيرة على السوشيال ميديا بتخلق صراع بين شخصيتك الحقيقية وشخصيتك على السوشيال ميديا،
وبتدخلك في متوالية جهنمية ما بتقفش.

سوزان جرين، عالمة الأعصاب في أوكسفورد بتشوف إن المتوالية دي بدايتها بتكون إيجابية غالبًا،
رغبة في الانفتاح على العالم ورغبة في التواصل مع الناس اللي عندك فعلًا، فبتبتدي بإنك تشارك معلومات شخصية عنك،
جسمك بيفرز الدوبامين وبتنبسط مؤقتًا لأنك عملت شيء ممتع بالنسبة لك وحسيت إنك أكتر تعايشًا مع محيطك وإن محيطك كمان متعايش معاك ومتقبلك، لكن دي بتكون توقعاتك بس،
مش الحقيقة اللي بتحصل فعليًا،
اللي بيحصل فعليًا إن مفيش أي شيء بيردع ردود الأفعال السلبية أو بيقننها، وردود الأفعال السلبية دي بتتراوح من أول التجاهل
(البوست ما جابش لايكات كفاية مثلًا)
لغاية الإهانات والسخرية ويمكن وصولًا لتحفيل جماعي بتتجلي فيه أقصى درجات الوضاعة البشرية،
ولما ده بيحصل حتى ولو كان تعليق واحد بس من وسط 100 تعليق،
لا إراديًا بتحس بالخيانة،
إنك اتعاقبت على مشاركة تفصيلة حياتية أصيلة وحقيقية عن شخصك الحقيقي، وده بيخلي شخصيتك الحقيقية دي أكتر ضعفًا وهشاشة، وبيزيد تحجيمها لصالح الشخصية “المثالية” اللي إنت شايف إنها مش حتثير نفس ردود الأفعال السلبية،
وبالتبعية ده بيحسسك بالانفصال عن ذاتك وبالوحدة والغربة،
ولما تحس بالوحدة والغربة حتبقى عايز تتواصل مع العالم الخارجي تاني،
فتقرر تراهن مرة تانية على مشاركة معلومة شخصية عنك على أمل إن ردود الأفعال تكون مختلفة، وهكذا.

الكلام عن إن السوشيال ميديا بتزيدنا وحدة، وبتزيدنا غربة وعدائية وبتقلل تعاطفنا مع الأفراد التانيين في محيطنا،
هو مش مجرد كليشيهات فلسفية هدفها إبراز المفارقة الشاعرية (محاطون بناس كُثر – وحيدون رغم ذلك)،
لكنها حقيقية تمامًا،
علمية تمامًا،
منطقية تمامًا،
ومش طبيعية إطلاقًا.

كل ده بيخلي الناس أقل تعاطفًا مع غيرهم،
لأن مهما كانت حالة غيرهم، حتى لو تم تشخيصه بالسرطان مثلًا،
أو حتى لو توفى والده أو والدته أو هو شخصيًا،
فهو شيء إنت شفته كتير على السوشيال ميديا،
وشفته كتير كمان،
شيء مابقاش استثنائي،
ولأنك شفت كل حاجة كتير فإنت زهقان،
وبتدور على حاجة استثنائية، وهكذا؛
دايرة تانية مفرغة جهنمية بتقتل إحساسك بالواقع ومشاعر اللي حواليك، وبتخليك تتشجع أكتر إنك تستهين بمعاناتهم ومشاكلهم، وبتخليك أقل قدرة على احتمال لحظات نجاحهم وإنجازهم،
وبتفرح جدًا لما حد تاني يشارك معلومة شخصية أو تتسرب له معلومة شخصية وتبقى ردود الأفعال عليها سلبية وعلى نطاق واسع وكل الناس شمتانة فيه، لأن ده بيحسسك إن مش إنت بس اللي اتعمل فيك كده، وإن مقارنة باللي حصله فاللي حصلك ولا حاجة،
وحتلاقي نفسك طول الوقت بتكرر جمل زي
“مش للدرجة دي”
أو “ما جبتش الديب من ديله يعني”
أو “مش أحسن حاجة”،
لأن الشيء الاستثنائي اللي بتدور عليه مش موجود،
ومش المفروض يكون موجود،
لو كان موجود بالمعدل اللي بتطلبه كل ما بتدخل على حسابك على فيسبوك أو تويتر،
ماكانش بقى استثنائي أصلًا.

المصدر