يعجبني وصف القرآن للمعصية بأنها ظلم للنفس، لأن كل شيء يفعله الإنسان سواء كان خيرًا أو شرًا أو فعلاً محايدًا يدفع ثمنه في الدنيا قبل الآخرة بسبب محدودية عمر الإنسان وإمكانياته وأنه محصور في ظرفي الزمان والمكان.
فأقل درجات الثمن التي يدفعها، وأسرعها حضورًا، تكلفة الفرصة البديلة، باستخدام المصطلح الاقتصادي: كل شيء تفعله الآن كان من الممكن أن تفعل غيره. في كل مكسب خسارة ولكل شيء ثمن عرفه من عرفه وجهله من جهله، ولهذا فالإنسان في خسر لأن صراعه مع الزمن معركة محسومة قبل أن تبدأ.
لكن يشيع في بني آدم اعتقاد خاطئ مفاده أنّ من الممكن للإنسان أن يهرب من تبعات أفعاله. لا أعتقد بوجود فكرة أكثر خطأ وضلالاً من هذه الفكرة. يتناسى أغلب البشر أن كل فعل له أثره المباشر والفوري، وأنّ أكثر الآثار غير ملموسة ولا يمكن التحكم في النتائج بدقة لعدم إحاطتنا بقانون الأسباب.
كل مدخلات الإنسان تؤثر عليه بطرق لا يمكن حسبانها أو تقديرها: كل ما يقرؤه ويسمعه ويشاهده ويسترسل فيه وكل من يخالطه، وكل فكرة يطلق لها العنان، كل ذلك يؤثر عليه.
بعض الأفكار سامة. ما إن تدخل نفس الإنسان حتى تلوثه. فكرة خبيثة تحدث في النفس عفونة ينشأ منها الظلام (على حد وصف الثنوية لنشوء الشر). بذرة صغيرة تضع الإنسان في بداية طريق معروف النهاية فتخرجه من النور إلى الظلمات. ولهذا فالإنسان مطلوب منه أن ينتبه إلى خواطره وأفكاره. وفي الحديث الشريف: “إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله تبارك وتعالى. فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه”.
يخطئ الناس خطأ فادحًا حين يظنون أن من الممكن الفصل بين الفكرة وصاحبها. تؤثر الأفكار والمعتقدات على حياة الإنسان “ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق”، وكل الأشياء تقريبًا ينطبق عليها قول الشاعر: وارض لمن غاب عنك غيبته ** فذاك ذنب عقابه فيه.
وقرأت مرة قولا لأحد العلماء: “إني أجالس الأحمق ساعة فأجد أثر ذلك عقلي”. والسلحفاة تربي أبناءها بالنظر.
ثم هناك أثر العادة. انحراف بسيط يمينًا أو يسارًا قد يغير شكل حياتك تماما بعد سنوات قليلة. وبعض الأفعال والمواقف لا تحتاج حتى لتكرار العادة بل يتغير الإنسان بعدها ولا يعود كما كان. يفعل شيئًا فتشرق نفسه ويفعل شيئًا آخر فتظلم نفسه.
هذا في أي فعل يفعله الإنسان، وهو في المعاصي أشد. فالخطأ أن يظن الإنسان الأمر مقصورًا على العقاب الأخروي. بل كل شيء له تبعات عرفها الإنسان أو جهلها. فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.
لكن يمكن للإنسان أن يهرب من بعض تبعات أفعاله في الدنيا. فالقاتل قد يموت بسلام في سريره في الدنيا، لكن من قال إن الإعدام هو العقاب الوحيد والنتيجة الوحيدة لفعل القتل؟ ماذا عن الآثار الأخرى النفسية التي لا حصر لها والتي نغفل عن حسبانها؟ يرتكب الإنسان الجريمة فيتغير هو نفسه. وفي قصة هابيل أنه قتل أخاه “فأصبح من الخاسرين”. أصبح هذا القاتل من الخاسرين فورًا قبل القصاص منه. بدءً من لحظة القتل أصبح هابيل قاتلاً. عقابه فوري، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
كل ما يفعله الإنسان في هذه الحياة الدنيا يؤثر عليه تأثيرًا فوريًا. يتغير كل شيء من أبسط الأفعال. “إن العبد ليقول الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فتلقي به في النار سبعين خريفًا”. فالكلمة قد يلقيها إنسان من دون أن يعرف أثرها على الآخرين، ولا أثرها على نفسه. ولا سبيل لمعرفة العلاقة الدقيقة الكاملة بين الأسباب والنتائج في هذه الدنيا. حتى يوم الناس هذا أتذكر كلمات عشوائية قيلت لي منذ طفولتي وأتذكر تأثيرها كأنها قيلت لي اليوم. والنظرة سهم مسموم، لأنك لا تدرك على وجه التحديد أثر هذا الفعل وتفاعله مع العوامل الأخرى. نعم يمكن لشيء بسيط أن يغير حياتك تمامًا.
وإذا فعل الإنسان المعروف فإنه يجد أثر ذلك في نفسه، وإذا سمح للغضب أن يقوده شعر باحتراقه بنار الغضب. يتشكل الإنسان طول الوقت ويعاد تشكيله، وتأتي الأفعال المتكررة لترسخ قيمًا في نفس الإنسان. ولعله لهذا يحتاج إلى الثبات اليومي الذي تمنحه الصلاة.. “إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا” ركيزة تصلح ما يفسده الزمان فينتفع بها “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ولذكر الله أكبر”. تؤدي الصلاة والدعاء إلى أن يترسخ في نفس الإنسان معنى عبوديته لله، فتقل عبادته لنفسه (وعبادة النفس والهوى أصل الشرور) فيؤثر هذا الاعتقاد على أفعاله وصفاته ويغير حياته، فيكون أول المنتفعين بصلاته. ومن الليل فتهجد به نافلة “لك”.
أول من ينتفع بالمعروف هو فاعل المعروف، وأول من يحترق بلهيب الشر هو فاعل الشر، في الدنيا قبل الآخرة. “إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها”. “وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون”. صدق الله العظيم.