سبب من الأسباب التي تجعلنا نغفل عن أنفس الأشياء حين تمر بنا و لا نتقبلها القبول الحسن اللائق بها، هو أننا نظن أن الأشياء شديدة النفاسة هذه هي أشياء أرفع كثيرًا من أن تنكشف لنا هكذا بكل بساطة أو أن توافينا من أقرب الأبواب، على العكس من هذا تمامًا، فنحن دومًا ما نرسم في خيالنا طريقة معينة لتجلي هذه الأشياء وانكشافها، طريقة تتناسب تماما وعظمتها و تناقض كل بساطة ممكنة، لذلك فحين تفاجئنا هذه النفائس وتأتينا من أقرب الطرق نعفل عنها و نكذبها، بل ربما لا نراها.
من أجل هذا مثلا كذب الناس الرسل، الذين كانوا –نفس هؤلاء الناس- في انتظارهم منذ أمد طويل، هذا لأنهم كانوا في انتظارهم لكن وفقا للصورة التي في ذهنهم والتي تتلائم مع نفاسة الرسالة، ملائكة ذوي أجنحة مُبرَّئين من دنس الأرض، قرطاس منزل من السماء، رقي في السماء، ينبوع متفجر في الأرض، لذا فلما أتتهم رسائل الله تجري بكل بساطة على ألسنة بشر عاديين من أواسط الناس لم يصدقوها، وفضلوا أن يقضوا أعمارهم في عذاب انتظار رحمات هي أقرب إليهم من الهواء على أن يصدقوا رسلاً من طين.
الأمر نفسه نحن نفعله في الحب، فنحن كذلك نرسم في مخيلاتنا شكلًا معينا لتجلي الحب، للحظته الأولى، لطريقة قول الكلمة الأولى، مكان ميلاد الحب، أغانيه، لذا فحين يأتي الحب بسيطًا عن كل هذا، بسحره الخاص كربة السعادة حين تقرر في ليلة ترك كل الموائد والجلوس على مائدة فقير، نرفضه، ننبذه، نعتبر أنه ليس الحب!، و بدلًا من أن نمد له أيدينا نُفضِّل أن نقضي أعمارنا في عذاب انتظار رحمات ضيعناها للتو.
هذه الطريقة في التفكير و التي تجعلنا نغفل عن أعظم الأمور حين يهديها الزمن إلينا، ما هي؟ هل هي مجرد خطأ في التفكير؟ خلط بين العظمة والتعقيد وتجاهل أن الحقيقي دومًا في غاية الألفة؟ أم أنها شيء آخر أكثر من هذا؟
ربما لو تأملنا قليلا لوجدنا أنها ليست مجرد خطأ أو خلط بل هي أكثر من هذا بكثير، فربما ليست المبالغة في تصور لحظة تجلي الحب و كمالها إلا حيلة نتحرر بها من مهمة بنائه، مهمة الأخذ بيد مولود الحب الصغير ومنحه الثقة كي يحيا، مهمة الحفاظ على أنفس الأشياء حتى لا تموت أمام أعيننا تترا.
يُقال إن يهوذا قد باع المسيح بحجة إنه أراد أن يرى مجد المسيح القائم من بين الأموات، وربما نحن مثله نقتل الحب بحجة انتظار الحب!
ربما أدق وصف لنا إن فعلنا هذا هو أننا شحاذون نشحذ ما نتركه يسقط من جويبنا، لذا ربما في آخر لحظات العمر سيطل الحب مستهزئًا بهؤلاء الشحاذين، من تركوه بحثًا عنه! مرددًا تلك العبارة التي ختم بها نجيب روايته ” الشحاذ، شطر بيت يقول “إن كنت تريدني، فلم هجرتني!!”