هنالك آية في كتاب الله عزّ وجلّ في سورة الكهف، أزعم شخصياً – وعن تجربة – أنّها مفتاح كبير للرزق ومغلاق عظيم للهمّ.. لكن قبل أن أقول ما هي هذه الآية، يلزمنا جميعاً فهمّ مقدماتها وسياقها.. لأنّ مجرد ترديدها بدون فهم سياقاتها لا يفيد بشيء.. وبسم الله نبدأ..
نبدأ بالقول أنّ أوّل خطوة لإغلاق الهمّ والخلاص منّه هي فهم الهمّ نفسه.. واعطاؤه تعريفاً يمكننا التعامل معه.. والتعريف الأبسط للهمّ هو أنّه ضيق في نفس الإنسان نتيجة وجوده في حالة معيّنة ورغبته في الانتقال من تلك الحالة إلى حالة أخرى.. فمثلا أنت مدين للناس بالمال وترغب أنت تكون حرّاً من الدين.. هنا أنت مهموم.. أعزب وتريد الزواج.. مريض وتريد الشفاء.. عاطل عن العمل وتريد أن تعمل وتكسب.. عقيم وتريد الخلف.. الخ.. هذا هو الهمّ.. أن تكون عالقاً في حالة سيئة، وترغب في الخروج منها إلى حالة أخرى مريحة.. والرزق بالضرورة هو أن يساعدك الله عزّ وجلّ في الخروج من هذه الحالة إلى حالة أفضل، فيخرج الهمّ من صدرك ويدخل مكانه الرّضا..
والسؤال الأوّل هنا.. هل كلّ تلك الحالات يمكن فعلاً الخروج منها إلى حالات أفضل؟ والجواب الواضح والصريح : لا.. هنالك حالات لا يمكن الخروج منها أبداً.. وستبقى وخزتها في صدرك حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.. كالعيوب الخلقية مثلاً.. شخص ولد بساق واحدة.. شخص قصير القامة.. ضعف شديد في النظر.. شعر خشن جدّاً.. الخ.. هذه الحالات لا يمكن أبداً الخروج منها لحالات أخرى، لكن يمكن بقليل من التفهّم لطبائع الأشياء، أن يخفّ أثرها كثيراً في نفسك.. ويساعد في ذلك فهم قوله تعالى في سورة ابراهيم (٣٤) “وآتاكم من كلّ ما سألتموه” ولفهم هذه الآية بشكل صحيح.. قم بحذف حرف “من” واقرأها مرّة أخرى.. “وآتاكم كلّ ما سألتموه”.. هل تبدو الآية منطقية الآن؟ بالطبع لا! لن يعطينا الله عزّ وجلّ كل ما نسأله إياه! وإلّا لسكنّا جميعاً في قصور وعزب وأطيان وكنّا جميلين وأصحّاء وأغنياء!! وهذا لا يحدث في الدنيا! يحدث في الآخرة فقط!! في جنّات عدنٍ التي وعد الرحمن عباده بالغيب! لكن في الدنيا.. “وآتاكم من كلّ ما سألتموه” مِنْ التبعيضية ضرورية جدّاً هنا! ضرورية لفهمك أنت! لقناعتك أنّك لن تأخذ كلّ شيءٍ الآن! هذه طبيعة الدنيا والأشياء! ولست وحدك هنا! الجميع ينقصهم شيء ما.. كلّ واحد فينا لديه نقص لم ولا ولن يستطيع ملأه حتى يموت! ولو لم يقله لك فهذا لا يعني أنّه غير موجود! بل موجود عند الجميع!
فخلاصة هذه النقطة هي أنّ بعض الهموم ستبقى في صدرك حتّى النهاية.. لكن ليس كألمٍ ممضّ بل كوخزة بسيطة بين الحين والآخر.. ويخفف هذه الوخزة تكملة آية ٣٤ في سورة ابراهيم حين يقول تعالى “وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها”.. أي صحيح أنّك تنقص -كما كل شخص آخر – شيئاً ما بشكل دائم! لكنك في الوقت نفسه – ككل شخص آخر – غارق في نعم أخرى!
الآن لنتحدث عن النوع الثاني من الهموم وهي حالات يمكن فعلاً الخروج منها.. كالعزوبية والدَّيْن.. والعطالة عن العمل.. وانقطاع الولد.. الخ.. وللخروج من هذا النوع من الهموم.. يلزم أمران.. الأوّل هو سعي الإنسان نفسه! مؤمناً كان أم كافراً.. والثاني هو ارادة الله عزّ وجلّ.. ولفهم أعمق لهذا الهمّ وكيفية الخروج منه، سنضرب مثالاً واحداً وهو التعطّل عن العمل.. وينطبق ما نقوله في هذا المثال على بقيّة الهموم..
أنت تخرّجت من الجامعة.. عملت في عدّة شركات.. تزوّجت، أنجبت.. وتعيش حياة مستقرة.. فجأة خسرت عملك.. لأي سبب ما.. فانقطع دخلك.. بدأت تصرف من مدّخراتك القليلة على زوجتك وأطفالك.. لكن الوضع صعب.. ولم تحصل على عمل رغم تقديمك للعديد من طلبات التوظيف!!
هذا همّ حقيقي وموجود.. ومشكلته أنّه يؤلم بشكل لحظي.. ويضغط على أعصاب الإنسان بشكل جنوني.. الحلّ المثالي طبعاً يكمن في استمرار السعي وتقديم الطلبات حتى يتم الحصول على وظيفة جديدة.. لكن حتّى يحدث هذا الأمر؟ كيف يمكن للإنسان أن ينام؟
السرّ هنا يكمن في اجابة السؤال “لماذا؟” لماذا يعمل أصدقائي كلهم في وظائف بينما تعطّلت أنا؟ لماذا تزوجت صديقاتي ولم أتزوّج أنا؟ لماذا زوجي لا يكسب كثيراً وأزواج أخواتي يكسبون الكثير؟ لماذا الفشل رغم السعي؟
والإجابة هي.. “إنا كلّ شيء خلقناه بقدر!! ” حكمة الله ومصلحتك أنت شخصياً في مسار حياتك وحبكة الأقدار كلّها ألّا تحصل على وظيفة الا بعد تعطّل لعدة شهور! حتى يفرغ الشاغر في الشركة التي يريد لك الله أن تعمل بها! حكمة الله ولمصلحتك ألّا تتزوّجي ذلك الشاب! وأن تتزوجي بعد عامين من ذلك، من شاب آخر! حكمة الله ومشيئته جلّ في علاه، أن تمرض كثيراً هذه السنة ولا تسافر للماجستير! حكمة الله أن تفشل مساعيك الآن لأنّ هذا الفشل ضروري لما هو قادم من أحداث! هذه هي الحبكة! أنت تريد أن تكون هناك الآن! لكن الله يريدك أن تظلّ هنا الآن! وتكون هناك فيما بعد!! هل الله عاجز عن تحقيق مرادك؟ لا.. “وما أمرنا إلّا واحدة كلمحٍ بالبصر” لكن “إنّا كلّ شيءٍ خلقناه بقدر!” اتضّحت الصورة؟
هذا الفهم ينقل الإنسان من مرحلة الهمّ إلى مرحلة الرّضا حتّى ولو لم تتغيّر حالته!! لكنّه صعب وثقيل على النفس.. ويحتاج الوصول إليه إلى تدريب وتدرّج.. وأسهل طريقة للوصول إلى التدرّج هذا هي استعارة حوار موسى مع الخضر (عليهما السلام) وإسقاطه على حوارك أنت مع الله! (ولله المثل الأعلى طبعاً)..
تبدأ من غدٍ فصلاً جديداً في حياتك.. وتقول لله عزّ وجلّ “ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمرا” فتضربك المصيبة.. تغضب وتحزن وتعتبر أن ما حدث لك كان شيئاً إمرا!! ثم تتذكّر (أو يكشف لك) أن ما حدث كان فعلاً لصالحك.. فتلوم نفسك على تسرّعك وتقول لله “لا تؤاخذني بما نسيت.. ولا ترهقني من أمري عسراً”.. وتجدد صبرك وإيمانك.. فتمشي الحياة قليلاً.. ثم تضربك مصيبة أخرى.. فتغضب وتعاتب.. وأمراً نكراً.. فيكشف لك مرّة أخرى أنّه كان لصالحك.. فتخجل وتستغفر وتجدد صبرك..
ولا يزال ذلك حالك بين جزع واستكانة.. حتّى يقرّ في قلبك أنّ كل ما حدث لك وسيحدث هو خير وحكمة.. فهمته أم لم تفهمه.. وأنّ الهموم قصيرة وإن طالت.. ومشاكل الإنسان محلولة.. وستعمل في نهاية الأمر وتقضي دينك.. وستتزوج وتنجب وسيرزقك الله “من” كل ما سألته.. وأن القليل من التأخير في الاجابة لم يكن يستدعي فعلياً كلّ ذلك السخط….
وهنا تأخذ عهداً على نفسك ألّا تعاتب الله عزّ وجلّ أبداً – ولو في قلبك- على أي شيء يحدث لك مهما كان.. وتقول الآية المفتاح “إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني!! قد بلغت من لدنّي عذرا”.. وتقولها وأنت مدركٌ جدًّا لمعناها وسياقاتها في نفسك..
وهنا ينجلي همّك مهما كان.. وتصغر مصائب الدنيا وأرزاقها في عينك حتى يعجب منك الناس! ويعطيك الله حينئذً من رزق الدنيا.. لكن الأهمّ أنّه يعطيك رزقه الأعظم.. رضا القلب.. المنتج النهائي لأي مجهود بشري في الدنيا.. ولا تزال تكرّر هذه الآية في صحوك ومنامك.. وليلك ونهارك حتّى يخضرّ قلبك.. ولا يبقى فيه موطىء قدم لأي سخط..
“إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني” .. أي أن صحبتك لي يا الله ومعرفتي بك أهمّ وأغلى عندي من متاع الدنيا الزائل.. وكفى بها صحبة.. وكفى بها معرفة.. وأنعِم به من رزق..