هل تلاحظون معي كيف تزايدت الأسئلة على مجموعات التواصل الاجتماعي قبل اتخاذ أي قرار، مهما بدا بسيطًا أو تافهًا؟
من شراء هاتف جديد، إلى اختيار مدينة للسكن، وصولًا إلى القرارات المصيرية المتعلقة بالعمل أو الزواج؟ لماذا أصبحنا مترددين إلى هذا الحد، وكأن كل اختيار هو مقامرة قد تغيّر حياتنا بالكامل؟
نعيش في عصر تُقدَّم فيه كثرة الخيارات على أنها رفاهية، على أنها الدليل الأكبر على الحرية الفردية و الإنجاز الأعظم للحداثة. كل شيء متاح، كل الأبواب مفتوحة (نظريًا). لكن المفارقة أننا لم نكن يومًا أكثر قلقًا و ارتباكًا، وأكثر خوفًا من اتخاذ القرار مما نحن عليه الآن.
ليست المعضلة فقط في كثرة الخيارات، بل في أن هناك قسمًا من الناس لديه خيارات فعلية لا حصر لها، وقسمًا آخر يتعرض لعنف رمزي هائل من خلال مشاهدته لملايين الخيارات التي لن يتمكن من امتلاكها أبدًا. ومع ذلك، يتم إقناعه طوال الوقت بأن حياته ستصبح أفضل لو حصل على المزيد، ولو اتخذ القرار “الأفضل”.
في كتابه ” مفارقة الاختيار” يرى باري شوارتز أن كثرة الخيارات لا تزيد سعادتنا، بل العكس تمامًا. فكلما زادت الخيارات أمامنا، زاد التردد والخوف من اتخاذ القرار الخاطئ، مما يؤدي إلى ما يُعرف بـ “شلل القرار”
ببساطة، حين تتعدد البدائل يصبح من المستحيل دراستها جميعًا، ويستحيل مقارنة كل خيار بآخر بشكل منطقي، مما يجعل عملية الاختيار مرهقة ومليئة بالقلق.
كنا نظن أن كثرة الخيارات ستمنحنا حرية أكبر، لكنها جعلتنا سجناء أفكارنا، عالقين في حلقة لا نهائية من “ماذا لو؟
“ماذا لو اخترت شيئًا آخر؟ هل كان سيكون أفضل؟ هل كنت سأكون أسعد؟” أو ما يسميه علم النفس ” التفكير المناهض للواقع” لأننا كلما اخترنا شيئًا، نشعر بأننا تخلينا عن بدائل أخرى ربما كانت أكثر ملاءمة. هذه الطريقة في التفكير تجعلنا لا نعيش حياتنا فقط، بل نظل نقارنها بالحياة التي كان يمكن أن تكون. وهكذا، نظل عالقين بين عالمين: حياتنا الفعلية، والخيارات التي لم نأخذها، فلا نعيش أيًا منهما بالكامل.
وهذا لا ينطبق فقط على القرارات الكبيرة، بل حتى على أبسط خياراتنا اليومية، ففي دراسة شهيرة تمت في أحد المتاجر، وُضعت طاولة لبيع المربى، وعُرضت أمام الزبائن 24 نكهة مختلفة في أحد الأيام، بينما في يوم آخر، تم عرض 6 نكهات فقط. المفاجأة؟ رغم أن عددًا أكبر من الناس توقفوا عند الطاولة التي تحتوي على 24 نكهة، فإن نسبة الشراء كانت أعلى بكثير عندما كانت الخيارات أقل. تؤكد هذه الدراسة أن تعدد الخيارات قد يبدو مغريًا، لكنه لا يجعلنا أكثر قدرة على اتخاذ القرار، بل العكس تمامًا، يجعلنا أكثر ترددًا وأقل رضا بعد اتخاذ القرار.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بعدد الخيارات، بل بكيفية تعاملنا معها. في نظريته، يرى شوارتز أن البشر ينقسمون إلى نمطين في اتخاذ القرارات:
الرِضائي، وهو النمط الذي يحدد مواصفات أساسية لما يحتاجه، ثم يختار الخيار الذي يلبي هذه المواصفات دون البحث عن الخيار “المثالي”.
والمُتقصّي، وهو الذي يقضي وقتًا طويلًا في مقارنة الأسعار، المزايا، العروض، الضمانات، مما يجعله عالقًا في دائرة لا تنتهي من البحث عن “الأفضل”.
. تشير الدراسات إلى أن الرضائيين أكثر سعادة ورضا بحياتهم، بينما المتقصّين يعانون من معدلات أعلى من القلق والاكتئاب. لكن المشكلة أنه في ظل عالم يحفّزنا على البحث المستمر عن الأفضل يصبح الحفاظ على هذا “الرضا” تحديا كبيرا حتى للذين يحاولون تبنيه.
حسنًا إذن، هل آن الأوان، في عالم تحوّل فيه الاختيار إلى عبء، وصار اتخاذ القرار أشبه بالمقامرة، أن نقتنع بأن الحل لم يعد يكمن في امتلاك المزيد من البدائل، بل في تغيير طريقتنا في التعامل معها؟ وأن السعادة ليست في كثرة الأشياء، بل في العلاقة التي نبنيها معها؟ في اختيار ما يتوافق مع قيمنا الحقيقية، وليس مع ما يفرضه السوق أو ثقافة الاستهلاك؟
هل آن الأوان أن ندرك أن “الأفضل” مفهوم وهمي، وأن الرضا يأتي حين نتوقف عن مطاردة الكمال، وحين نسمح لأنفسنا بأن نكون سعداء بما لدينا، لا بما يمكن أن يكون. أن نتوقف عن تجربة كل شيء بلا التزام، ونغوص في تجربة واحدة بعمق، أن نستثمر وقتنا وجهدنا في شيء واحد، علاقة واحدة، خيار واحد، ونرى كيف يمكن للمعنى أن ينمو داخله.
لعلنا لا نحتاج إلى مزيد من البدائل بقدر ما نحتاج إلى راحة البال، إلى ذلك الإحساس الخفيف بأننا اخترنا، ومضينا، دون أن تلاحقنا أشباح الاحتمالات الأخرى. صحيح أن السعادة لا تعني أن نعيش بلا اختيارات، لكنها ربما تعني أن نمتلك الشجاعة لنختار، ثم أن نمتلك الرضا لنعيش مع اختياراتنا دون ندم. ففي عالم لا حدود لاحتمالاته، ربما يكون القرار الأكثر شجاعة هو أن نقول لأنفسنا أن ما بين أيدينا… يكفي.