اللقطة بتاعت الدرّاجة المصرية شهد عيسى وهي بتخبط زميلتها عشان تاخد مركزها من كام سنة، ثم تمثيلها للبلد في أولمبياد باريس، حتاخد أكبر من حجمها حتى لو كان حجمها كبير فعلًا، لأنها حتساعدنا نلخص المشكلة كلها فيها، ونتجاهل حقيقة التحولات الثقافية المرعبة اللي بتمر بيها مجتمعاتنا، وبالتبعية، رياضاتنا، التحولات اللي اللقطة دي واحدة من تجلياتها.
نظرًا لأن نُخبنا بقت أسوأ ما فينا من سنوات، وتحولت لنسخ مُضخمة فقط من النماذج الانتهازية في المجتمع، فالعبء الثقافي كله بقى على الغرب، نستورد منه ثقافته ومبادئه وأخلاقياته، ومن هنا بدأ ينتشر في مجتمعاتنا -زي السرطان- خطاب الترويج للذات طول الوقت، والهوس بالنجاح الفردي، ونسبية الأخلاقيات والصح والغلط، والمقارنات بالآخرين.
ثقافة “فائز وخاسر” الأميركية ما بتنتجش -على المدى البعيد- فائزين وخاسرين فعلًا، بتنتج غشاشين ومتمكنين ونافذين من ناحية، ومسحوقين ومقموعين ومخدوعين من ناحية تانية، ولا يوجد تجلي أوضح ليها من حقيقة إن رئيس الولايات المتحدة الأميركية القادم، وقائد العالم الغربي، هو أحد هؤلاء الغشاشين الانتهازيين الحرامية المُدعين، اللي اتولد في عائلة ثرية وبدأ حياته بملايين الدولارات، ثم صدق أنه فائز، صدق أنه عمل حاجة ما قبل ما يتولد جعلته يستحق مصيره وحياته الحالية، وبالتبعية، اللي لم يكن له نفس المصير والحياة هو كمان عمل حاجة قبل ما يتولد خلته فقير.
ما هو لا يؤمن بده، لا يؤمن إن اللي هو فيه ده حظ، والثقافة دي عدوة الحظ، عدوة القدر والظروف والنصيب والعشوائية وكل اللي إحنا بنعتبره تدابير ربنا وقضاءه وقدره باعتباره قوة غيبية. هذه الثقافة عدوة القوى الغيبية أصلًا، ورسالتها إن الوجود متمحور حوالين ذواتنا، وكل واحد وذاته بقى.
أي بني آدم بالغ كامل الأهلية يقدر يتوقع بسهولة المعادلة الصفرية بتاعت “فائز – خاسر” دي حتنتج مواقف عاملة إزاي، حتنتج ناس مش متقبلة الفشل كاحتمال أصلًا، بل الأدهى، مش متقبلة إن الأمور ما تمشيش زي ما هي عايزة، وبالتالي بتستحل الغش عشان تحقق أهدافها، وبتعتبر الآخرين مش ناس، بل عقبات في طريق الحصول على المكانة اللي يستحقوها، أو الميدالية البرونزية في حالة شهد.
حاليًا في مصر الناس بتفتخر إنها لا تقبل الفشل كاحتمال أصلًا، متخيلة إن ده بيخليها تبان مثيرة للإعجاب..والمصيبة إنها بتبان مثيرة للإعجاب فعلًا، لأن محدش بيتخيل إن خطاب زي ده المفروض يخليه يترعب من اللي ممكن الناس دي تعمله عشان تتجنب الفشل، واللي حيكون غالبًا حاجة يائسة تكسبهم بأي طريقة وكأنهم بيدافعوا عن حياتهم، مش عن فرصة عمل أو ترقية أو درجة من الشهرة.
لو إنت مش حاطط الفشل كاحتمال أصلًا يبقى إنت إيه؟ إله متحكم في كل حاجة بتحصل ليك ولغيرك؟ ولما تكتشف، زي مليارات قبلك، إن مفيش حاجة اسمها كده، مش حيبقى قدامك غير احتمالين؛ إما الفشل يحطمك تمامًا، أو يحولك لغشاش انتهازي ما بيحسش بلحظة شك أو تأنيب ضمير وهو بيدوس ع الناس، لأنه من الأول حط نفسه في اختيار صفري إما هو أو هم، وطبعًا في كل مرة حيختار نفسه.
بعضهم كانوا ضحايا لغاية سن معينة، نشأوا في الثقافة دي عبر تعاليم أهاليهم وما يعرفوش غيرها، لكنهم لما كبروا ونضجوا ما قدروش يراجعوا أنفسهم ويفكروا في اللي اتقال لهم.
واحد من دول -للمفارقة يعني- كان لانس أرمسترونج، اللي كان العالم كله بيعتبره أعظم درّاج في التاريخ، لغاية ما اكتشفوا إنه كان بياخد منشطات، بدونها ماكانش يقدر يحقق السبع ألقاب بتوع الـ Tour de France اللي هو خدهم، واللي بناءًا عليهم كان بيعتبر أعظم درّاج في التاريخ.
في مقابلة مع أوبرا وينفري سنة 2012، أرمسترونج بيلخص الثقافة دي كأوضح ما يكون لما بتسأله لو رجع بيه الزمن حيعمل نفس الشيء؟
أرمسترونج بيقولها آه..لأنه شايف إن كان بياخد اللي “بيستحقه”.
منين جه “الاستحقاق” ده؟ مين قال إن الاحتمال الوحيد هو إنك تكون “أعظم درّاج في التاريخ”؟ مين قال إن أي حاجة غير كده بشعة لدرجة إنك مستعد تاخد منشطات عشان تتجنبها؟ نفس الثقافة المتمحورة حوالين الذات، اللي مافيهاش إله ولا مرجعية أخلاقية حتى تجمعنا..القانون نفسه مهما كانت صرامته وجديته بيسقط عمليًا لما تخير الناس بين بعضهم في معركة حياة أو موت، فائز أو خاسر.
بلومبرج قدّرت اللي كسبه أرمسترونج من الغش بـ 218 مليون دولار..آه سباقات الدراجات بتكسّب كتير فيما يبدو..والقانون ما قدرش يسترجع منهم غير 5 مليون بس.
مد الخط على استقامته بقى، أرمسترونج مش بس غش وكسب مئات الملايين، ده اكتشف كمان إن الغش مفيد حتى لو اتفضحت.
لما بتحط إنسان قدام اختيارين مالهمش تالت؛ إما ناجح أو فاشل، فائز أو خاسر، مشهور أو مغمور، غني أو فقير، الأفضل في التاريخ/البلد/البطولة أو نكرة، لما تحول الحياة كلها في عينيه لأبيض وأسود، مش بس حيبقى عايز الأبيض، دي مش مشكلة، المشكلة إنه كمان حيتحول لإنسان مرعوب من الأسود، ومستعد يعمل أي حاجة عشان يتجنبه، حتى لو كان حيدهس آخرين مالهمش ذنب، لأنه مادام هو اللي حيحاسب لوحده ع الفشل، حيبقى بينجو بنفسه برضه لوحده كأنه في حرب حقيقية، والذهنية دي هي اللي تبرر عدم إحساس أغلبهم بالندم بعد دهس الآخرين، سواء كان اسمهم لانس أرمسترونج أو شهد عيسي.
طبعًا جدير بالذكر هنا إن الكلام ده ليس هدفه التطهر الذاتي وإلا ما يبقاش له معنى، مش الهدف هو القول إننا في هذا الجانب من العالم كل مشكلتنا هي الثقافة الغربية، بالأحرى مشكلتنا هي الفراغ الضخم اللي ملأته الثقافة الغربية بالهراء ده، وإنه جه على هوانا لأننا إحنا كمان بندور على النجاة الفردية لأسباب كل الناس عارفاها، ومحطوطين في نفس المواجهة الصفرية، ولا نملك إلا إننا -جماعيًا- نقرر إننا نوقف العجلة دي، وواقعة شهد تبقى فرصة عشان نشوف في كام جنة عليوة اتدهست وبتندهس يوميًا حوالينا، وكام واحدة منهم بتتعلم نفس الدرس الوسخ بطريقة قاسية، وكام واحدة منهم ممكن تتحول بعدين لشهد عيسى عشان تنجو.
المفارقة إن الفكرة اللي بتبدأ المتوالية الوضيعة دي، واللي بتنهيها في نفس الوقت، هي اعتقاد كل واحد فينا إنه يستحق كذا أو كذا عشان هو..هو..عشان هو مميز ويستحق كده بدون ما يتطلبه الاستحقاق ده، عشان لازم يكون نمبر وان أو الأول ع الدفعة أو الألفا في شلته.