أعرني شيئاً (كثيراً) من انتباهك إذا تكرمت، فهذا الكلام من الخطورة بمكان
من الرسائل الخاطئة التي أراها تُتناقل في رمضان ما مفاده: ها قد جاء رمضان وصفدت الشياطين، فالآن ما يظهر منك من معاص هو نفسك الحقيقية
وللأسف كثيراً ما أسمع هذه الرسالة من بعض الدعاة، وهي من صور الوعظ الجاهل الذي يضر أكثر مما ينفع!
أصل هذه الرسالة هو حديث في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ”
والحديث في أعلى درجات الصحة، ولكن الآفة في الفهم السقيم
فمن جهة، اختلف العلماء في معنى سلسلة/تصفيد الشياطين على أقوال، ليس منها ما يفيد امتناع الشرور
– فقال بعضهم إن المراد هو مردة الشياطين خصوصاً
– وقال البعض إن المراد مسترقي السمع منهم
– ومنهم من قال إن هذا في ليالي رمضان دون أيامه
– ومنهم من قال إن المقصود إضعاف إغوائهم بني آدم بالشهوات
– ومنهم من سكت عن تأويل التصفيد كما فعل أحمد، وهو أحسن الأقوال
وثم أقوال أخرى
ولم يقل أحد إن شرورهم تمنع مطلقاً في رمضان، بل إن هذا خلاف صريح القرآن! قال تعالى في سورة الأنفال عن غزوة بدر والتي كانت في رمضان لما زين الشيطان للكفار أعمالهم: “وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ”، وللعلماء توجيهات شتى للآية
فالحاصل أن معنى تصفيد الشياطين من جنس المتشابه، وقد وقع فيه اختلاف عظيم، وما كان هكذا لم يسغ اتخاذه سوطاً يسلط على المسلمين لسلخ ظهورهم بدعوى الحث على التوبة، بل هذا إلى حظ النفس وشهوة الجلد أقرب! فإنه حتى وإن حُمل على المعنى الذي أرادوه، فإن من فقه الداعية تعظيم الخير في الناس مع لفتهم إلى الشر الظاهر دون الباطن. فإن النفس مليئة بالشرور، ولم نؤمر بالتفتيش عن ما خفي منها، بل قد أُمرنا بالاستعاذة منها استعاذة مجملة من غير وسوسة ولا نقش. فقد قال النبي ﷺ في حديث صححه جماعة من أهل العلم: “وسأدلُك على شيءٍ إذا فعلتَه أذْهَبَ عنك صَغارُ الشركِ و كبارُه، تقولُ :
اللهمَّ إني أعوذُ بك أنْ أُشرِكَ بك و أنا أعلمُ، و أستغفرُك لما لا أعلمُ”، فالظاهر نعينه بالعلاج والاستعاذة، والخفي لا نفتش عنه ونستعيذ بالله منه
والواجب أن يحفظ المسلم نسبة نفسه إلى الخير وأن يصرف نسبتها عن الشر ما استطاع. لهذا قال النبي ﷺ فيما رواه عنه البخاري وغيره: “لا يقولن أحدكم: (خَبُثَت نفسي) ولكن ليقُل: (لقَسَت نفسي)”، مع أن خبثت ولقست بمعنى واحد على قول بعض الشراح، إلا أن لفظ الخبث مرتبط لغة وشرعاً بالذم المطلق والقبح التام. لهذا قال القاضي عياض فيما نقله عنه الحافظ في الفتح: “ويؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء والعدول إلى ما لا قبح فيه. والخبث واللقس وإن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما لكن لفظ الخبث قبيح ويجمع أمورا زائدة على المراد، بخلاف اللقس فإنه يختص بامتلاء المعدة. قال [عياض]: وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن، ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة. قال: ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول لست بطيب بل يقول ضعيف، ولا يخرج نفسه من الطيبين فيلحقها بالخبيثين”
فهنا رمضان شهر الخيرات، يتعرض فيه المسلم لنفحات الله، وينهل من معين الخير ما استطاع، ولو سقط سقطة أو زل زلة مهما عظمت فليقم وليحارب كل ما يفت في عضد نفسه، فما الحياة إلا حرب مع الشيطان ينتصر فيها الأطول نَفَساً، فلتكن أنت ذاك!
والله أعلم