بمناسبة الحديث عن ‘‘الفلسطينيين الخونة‘‘ الذين باعوا أرضهم للصهاينة..
هناك كتاب ممتاز، يشرح عملية التمدد الصهيوني في فلسطين، منذ اللحظة الأولي..أي عام 1856..وقتها..كان هناك 500 يهودي علي طول المنطقة الممتدة بين تل القاضي في الشمال وبئر السبع في الجنوب..كانوا يعيشون حالة مريعة من الفقر والانحطاط..الثري البريطاني-اليهودي السير موشيه مونتيفوري ذهب إلي السلطات العثمانية، طالبًا منها تشييد عددًا من الملاجيء لإغاثة بني دينه، فحصل علي ترخيص لإقامة 27 كوخ خارج أسوار البلدة القديمة في القدس..ومع دخول الدولة العثمانية أطوار الأفول، وصدور قانون ينظم امتلاك الاجانب للأرض، كان الاندفاع عبر القناصل الأوروبيين لشراء الأراضي لصالح الجمعيات الصهيونية.
ستجد وزير العدل الفرنسي ‘‘كرميو شاو لنزتر‘‘ وقد أسّس جمعية التحالف الإسرائيلي العالمي، التي مولّها المصرفي الشهير البارون روتشيلد، والتي نجحت بدورها في الحصول علي فرمان عثماني باستئجار 2600 دونم في يافا لمدة 99 عام..وعائلة بيرجمان الألمانية التي حازت رخصة البنك الوحيد في فلسطين، الذي مثّل السلطات العثمانية وبنوكًا لندنية، وهي تشتري مزرعة أبو شوشة لقاء تسديد ضرائب مستحقة علي 400 من أهالي القرية..والحاخام إيفرلينج الذي كان قنصلًا لبريطانيا في يافا وهو يشتري 3340 دونم..والقنصلية الألمانية وهي تستحوذ علي 3730 دونم لإنشاء مستوطنة بتاح تكفا..والقنصل الفرنسي اليهودي جيرمين وهو يشتري 6000 دونم من حيازة قرية زمارين، ثم يبيعها لمواطنه اليهودي إميل فرانك..والقنصلية البريطانية في القدس وهي تساعد شلومو يحزكئيل في حيازة 400 دونم لإقامة مستوطنة موتسا.
رحلة مكثفة بين عمليات حيازة الصهاينة للأراضي حتي سقوط فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتفصيل للمنظمات الصهيونية التي موّلت عمليات الحيازة..صندوق الائتمان اليهودي ‘‘يكت‘‘ والصندوق القومي اليهودي ‘‘كيرن كاييمت‘‘ ..خلال 60 سنة..من 1856 وحتي بدء الانتداب البريطاني 1920..كم كان مجمل الأراضي الفلسطينية التي اشتراها الصهاينة؟..حوالي 634 ألف دونم من أصل مساحة فلسطين المُقدرة ب 26 مليون دونم..قرابة 2% لا أكثر من الأراضي الفلسطينية..الانتداب البريطاني سيبدأ..ومعه السعار حول تفتيت الملكية العربية التي كانت تبلغ قرابة 50% مقابل 44% ملكية للدولة، و2,4% للصهاينة..ال 2,4% تلك تحصل عليها الصهاينة من أراضي ملاك عرب شوام كانت لهم حيازات في فلسطين وبالأخص عائلة سرسق..وكذلك نفس النسبة، أي الربع، من كبار الإقطاعيين الفلسطينيين، و 12% فقط من صغار الفلاحين، والباقي من ملكيات الدولة التي استغلها القناصل الأوروبيون.
ماذا فعل الانتداب البريطاني؟ شبكة من التشريعات التي تسهل عملية شراء الأراضي..قانون الغابات، تفكيك نظام المشاع واستحداث نظام التسوية لتفتيت الملكيات..وبالطبع قانون إنساني لطيف يُدعي ‘‘قانون حماية المزارعين من الطرد‘‘ صدر عام 1929..قانون ظاهره إنساني..إذ يمنع المالك عربيًا كان أم فلسطينيًا من طرد الفلاح حتي لو تأخر في سداد التزاماته..والنتيجة..الفلاح يتأخر والمالك يتضرر..فيتدخل سمسار الأرض اليهودي الذي يبتاع الأرض من المالك ويوفر عليه المشاقة..هذا يُفسر سبب بيع كبار العائلات العربية أجزاء واسعة من حيازاتها..لماذا اندفع إذن بعض صغار الفلاحين الفلسطينيين للبيع؟..يدفع الفلاح فوق ضريبة العُشر التي ورثها البريطانيون من النظام العثماني، ضريبة عُشر جديدة..وفي أوقات الأزمات الاقتصادية كنهاية العشرينات..كان الفلاح يدفع قرابة 60% من دخله لحكومة الانتداب وأحيانًا 100%..فضلًا عن الأوضاع التي تلت الحرب العالمية الأولي، التي أسفرت عن ضياع قرابة 40-50% من الأشجار المثمرة، بعد قطعها واستعمالها وقودًا للقطارات الحربية.
وضع مأزوم للفلاح الفقير..الإنجليز لا يترددوا في مضاعفته..الفقر لابد من استغلاله لمزيد من تفكيك الملكيات العربية..ألغي الإنجليز البنك الزراعي العثماني الذي كان يمنح الفلاحين قروضًا ميسرة..واستبدلوه ببنك باركليز لاستثمار المزارع العربي..دور البنك عبّر عنه بجلاء..المُطران جريجوريوس الحجار.أسقف عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل في شهادته أمام اللجنة الملكية التي زارت فلسطين عام 1936 قائلًا..‘‘لا يزال الفلاح العربي مثقلًا بالديون، بخلاف زمن تركيا..لذلك سعيت لدي المندوب السامي البريطاني مرارًا، كي يعيد فتح هذا البنك الزراعي العثماني، لاعتقادي أنه الوسيلة الوحيدة لنشل الفلاح من وهدة الخراب..وإنكم لا تريدون فتح هذا البنك..لكي يزداد الفلاح فقرًا، أو يُضطر لبيع أرضه لليهود..إن بنك باركليز هو حلقة صهيونية..وُجد ليستولي علي الأراضي العربية بطريقة غير شرعية..لأنه يُقرض الفلاحين يفوائد مرتفعة نسبيًا، حتي لا يتمكنوا من رد ديونهم، فيستولي البنك عليها عندئذ بأبخس الأثمان‘‘.
ليست تلك الوسيلة الوحيدة التي فطنت إليها بريطانيا لسلب الملكية العربية..الثري اليهودي ‘‘بنحاس روتنبرج‘‘ أسّس شركةً برأسمال مليون جنيه سترليني لتوليد الكهرباء..فمنحه المندوب السامي البريطاني امتيازًا لمدة 12 عام..المشروع الأخطر لروتنبرج، كان بحصوله علي امتياز لمدة 70 سنة لاستغلال مياه نهري الأردن واليرموك..المندوب السامي البريطاني بلومر، وافق أيضًا علي دعم المشروع برأسمال إنجليزي-أميركي..ولتنفيذه..استولي الثري اليهودي علي 18 ألف دونم..أعقبها 108 ألف دونم باسم المنفعة العامة..وطبعًا طُرد الفلسطينيون ودُمرت مبانيهم السكنية..الأمر ذاته سيتكرر عندما يمنح الانتداب البريطاني امتيازًا لمدة 75 عام لشركة البوتاس التي أنشأها يهود وإنجليز وأميركيون للسيطرة علي 64 ألف دونم..المقابل المادي؟..جنيه واحد سنويًا، يُسدد علي قسطين.
ورغم كل شيء..من لحظة البداية عام 1856..الابتزاز الإنساني، والقناصلة الأوروبيون كغطاء للشراء، ومنظومة التشريعات البريطانية المُستهدفة تفكيك الملكية وإفقار الفلاحين وصغار الملاك، وامتيازات استغلال الأرض بباطنها..رغم كل ما سبق..عند لحظة التقسيم المشئومة عام 1947..كان كل ما يمتلكه اليهود من أراضي فلسطين بحسب شهادة ديفيد بن جوريون نفسه أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين ‘‘الأونوسكوب‘‘ لا يزيد عن 6%..أي قرابة مليوني دونم من أصل 26 مليون دونم هي مساحة أرض فلسطين اليابسة باستثناء البحيرات..500 ألف دونم منها بمنح مباشرة من سلطات الإنتداب، وقرابة 462 ألف من بيع كبار الإقطاعيين العرب لأراضيهم (معظمهم من الجنسية اللبنانية من عائلات الطيان، سرسق، ورثة سليم رمضان، ورثة جمال وملكي، زعرب، علي سلوم، فرنسيس، العويني وآخرين)..6% فقط هي مجمل أرض اليهود عند قرار التقسيم..تحصّلوا عليها علي مدار 90 سنة من النشاط الاستيطاني..ونصفها من مصادر غير فلسطينية..في مجتمع لم يكن علي دراية بأن سلب الأرض جزءًا من مخطط أوسع لمصادرة كامل أرضه وإقامة دولة صهيونية..ثم يأتي كائنًا من كان ليقول بأن الفلسطيني خائن وباع أرضه للحلم الصهيوني مقابل المال، فقط ليحاول إيجاد مسوغ متداع لانحيازاته غير الإنسانية !
الكتاب وثيقة أكاديمية علي امتداد 250 صفحة..أعدّها الباحث الدكتور أكرم حجازي..تحت عنوان ‘‘الجذور الاجتماعية للنكبة: فلسطين 1858-1948‘‘..صادر عن دار..مدارات للأبحاث والنشر.
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2088872641437253&id=100009436133419