هناك من يربط بين الانتحار وبين الكفر بالله، فهل كل ملحد انتحر؟ وهناك من يربط بين الانتحار وبين التوغل في الحياة المادية، فهل كل من يعيش حياة مادية انتحر؟
الانتحار من أعقد أفعال البشر، ولا يمكن سوى لطبيب نفسي أن يدلي بدلوه فيه. قرار إنهاء الحياة يختلف عن التفكير فيه، ويختلف عن تمني الموت يأسًا من الدنيا، ولا يرتبط بمؤمن أو ملحد، ويصعب تعميم أسبابه بل يكاد يكون ذلك مستحيًلا، اللهم إلا بعض القواسم المشتركة التي يمكن قراءتها في الدراسات المتخصصة.
أكثر ما يمكن ملاحظته في مسائل الانتحار هي حالة البلبلة التي تحدث بعدها، ومحاولة استدعاء للشرع للإجابة بإجابة فقهية جامدة على مسألة شخصية، لا نعلم عنها شيئًا سوى أن هناك شخصَا قد قرر إنهاء حياته، فيجد المرء نفسه أمام تناقض بين رحمة الله التي يؤمن بها وبين نصوص تعتبر المنتحر كافرًا.
إلا أن الفاهم لنص الوحي الواسع، سيصل إلى أن الشرع ليس حدودًا جامدة، وأن الوحي يدفعنا لفهم صحيح للكون والإنسان والأحداث من حولنا لينتج عن ذلك ممارسات في الحياة آمنه للجميع،ومن هنا سيكون باستطاعته أن يفهم لماذا حرم الله بعض الأفعال على البشر.
وإذا قرأنا نصوص الوحي من هذا المدخل فهمنا ما قيل فيه عن طبيعة الإنسان، فالله قد أخبرنا أن للإنسان طاقة لا يكلفه إلا وسعه، وفي القصص القرآني نرى ضعف الإنسان وجهله وحاجته للعون، وأخبرنا أنه ألهم النفس فجورها وتقواها، ومكنها من القدرة على فعل الخير والشر، الحسن والقبيح، وكل ما أخبرنا به لا يجعل من القرآن كتابًا علميًا لوضع نظريات في علوم النفس والاجتماع، وإنما هو مفاتيح للنظر وللتفكر والبحث في ضوء ما جاء فيه من سنن ومفاهيم وقيم.
وحين يخبرنا الشارع أن الانتحار فعل مذموم، فإن ذلك يأتي ضمن مقاصد الأحكام الشرعية كضابط للفعل البشري – الذي قد ألهمه الله الفجور والتقوى- وهذا الضابط حين يُفهم في ضوء ذلك سنعرف لماذا حرم الله بعض الأفعال على البشر؟
تخيلوا لو أنه لم يكن هناك ضابط في العلاقات، فأصبح المرء وأمسى يعدد في علاقاته الجنسية بلاضابط، أو لم يكن هناك ضابط في إتهام الناس بالزنا، أو لم يكن هناك ضابط لحفظ النفس من أن تقتل نفسها؟
ولو كان الشارع متساهلًا – أي لم يأتِ بتلك الضوابط- مع كل فعل مؤذي للنفس بدعوى أن الظروف قد أجبرته على ذلك، فسيكون من حق المرتشي أن يرتشي لأنه معدم، ومن حق السارق أن يسرق لأنه فقير، ومن حق القاتل أن يقتل لأنه نشأ في بيئة صعبة، ومن حق المدمن أن يدمن لأن أسرته مفككة، إلا أنه ومع ذلك ينظر في كل شأن على حدته، وكل حال على حدته كما فعل عمر بن الخطاب حين ألغى حد السرقة في عام الفقر، لتفهمه للظرف العام الذي يمر به الناس، مما يعني فهمًا واعيًا لمقاصد الأحكام والحدود.
من هنا يمكننا فهم لماذا حرم الشارع الانتحار، وأن هذا لا يتناقض مع رحمة الله بالإنسان، وفهمه لطاقته ولضعفه.
هذا التوجيه الإلهي ليصَّعب على الإنسان اللجوء إلي الانتحار، كما يصعب على الإنسان أفعال أخرى تؤذيه، ويجعله يفكر قبل أن يقدم على هذه الأفعال، ويصنع بينه وبينها مسافة تثقله عن الإتيان بها، إلا أن ذلك لا يعني أن الله لا ينظر إلى كل نفس وما كسبت، وحالها، وطاقتها، ويغفر لها الخطأ والنسيان، فما بال من وصل إلى ضعف قضى على حياته بأي شكل من الأشكال.
ومن هنا نفهم لماذا ينتحر مسلم داخل الحرم وأمام بيت الله؟ فضعف الإنسان كالمرض، داء يحتاج إلى دواء، وليس لذلك صلة بعلاقته بربه، إنما هي مسألة نفسية معقدة تحتاج إلى متخصص وليس إلى واعظ.
ومن هنا نفهم ايضًا أن دعوة المريض إلى الإكثار من العبادات ليس الحل في تلك الحالة، بل ربما يكون ذلك سبب في نفور الشخص من الإيمان بالله، إنه في حاجة إلى أن يثق في أن هناك من يرعاه ويهتم لأمره بادئ ذي بدء ويفهم ضعفه ويستقبله بحفاوة دون أن يشعره أن هذا كفر بالله ولا يليق به، ويقف إلى جانبه ويبحث معه عن طبيب يساعده، بما لا يلغي الحاجة إلى الصديق الناصح الأمين.
فلنسأل الله أن يجعلنا عونًا لكل من ضاقت به الحياة، لا عونًا لها عليه، وأن نحفظ أنفسنا، ومن حولنا من الشعور بالوحدة والقلق.