صادرة صوت الضحية.. “البحث عن المسيحي العاقل” نموذجاً
يقول المثل المصري “يقتل القتيل ويمشي في جنازته”، ويقول الواقع إنهم بعد قتل القتيل يمنعون الحديث عن جنازته. بعد التفجيرات الإرهابية الأخيرة ظهرت موجة من كتابة الشباب الأقباط عن مظلوميتهم، ذكرياتهم عن التمييز والإيذاء في المدارس والشوارع، مشاعرهم بالخوف في الكنائس ..الخ.
في المواجهة ظهرت فوراً موجة لكبت هذه الأصوات وسحقها معنوياً، يشترك بها إسلاميون و”دولجيون” على حد سواء.
أول أركان خطاب الكبت الإسلامي هو الاستدعاء التاريخي. يجب عليكم الصمت لأنكم لم تدفعوا ثمن جرائمكم، والتي تبدأ من أعماق التاريخ حيث نصوص العنف بالكتاب المقدس، ولن ننسى الحروب الصليبية، ونمر بالاستعمار الإنجليزي، وأيضاً غزو أمريكا التي تحميكم للعراق، وبالطبع تأتي الشماعة الكبرى: البابا تواضروس أيد السيسي، وبالتالي فأي شيء وكل شيء هو نتيجة ما فعلتم بحق دماء رابعة، أو على الأقل هو نتيجة لما فعلته الكنيسة والدولة بكم. لا تلومونا ولوموا أنفسكم.
النوع الثاني هو المزايدة بالمظلومية. تدخل الأخوات إلى صفحة الفتاة المسيحية ليطلبن منها الصمت لأنهن أيضاً تعرضن للتمييز لأنهن منتقبات. يرددن أن المسلمين هم المظلومون في البلد، نحن الذين تُغلق مساجدنا بعد الصلاة بساعة وأنتم كنائسكم مفتوحة دائماً. المسلمون هم من يدخلون السجون ويتعرضون للتمييز بدواعي أمنية لا أنتم. (هنا يستخدمون لفظ “المسلمين” بديلاً عن “الإسلاميين”، في مغالطة واضحة للخلط بين ظلم سياسي واضطهاد على الهوية الدينية، ففي النهاية رجال الجيش والشرطة والقضاء جميعاً مسلمون، والسيسي كان يبكي من خشية الله في صلاة الظهر كما نعرف)
النوع الثالث هو أكثرها وقاحة، حيث لا يكتفي بمطالبتهم بالصمت، بل يؤكد أن كلامهم يخالفه “كل النصارى العاقلين”. دائماً يتحدثون عن هذا القبطي المثالي. “النصارى العاقلين” يعرفون أن حكم الشريعة كان أفضل أيامهم، وكلهم يتمنون عودتها. “النصارى العاقلين” يعرفون أنهم أخطأوا بتأييد السيسي. وبالطبع يعرف “النصارى العاقلين” أن تفجير الكنائس تمثيلية أمنية دبرتها الدولة.
تبدو حالة د.رفيق حبيب مع جماعة الإخوان المسلمين نموذجاً لافتاً، فالرجل الذي ينتمي أساساً للطائفة الإنجيلية أي لا ينتسب للكنيسة الرئيسية المصرية، كان يتبنى آراءاً محافظة للغاية من الشريعة الإسلامية تجاوز حتى بعض الإخوان أنفسهم. هذا الرجل الخارج تماماً عن تمثيل قاعدته كان يُقدم باحتفاء كأنه ممثل للأقباط بالمحافل الإخوانية، وتم تعيينه عضواً في لجنة كتابة الدستور. ما أجمل الحياه لو أصبح كل الأقباط مثل الدكتور رفيق.
هناك آخرون من ذوي الأًصوات المصادرة. مثلاً المرأة العاقلة تظهر في كتب قطاع من الإسلاميين معترفة بنقصها، سعيدة بحرمانها من الحقوق والمساواه. شاهدت شيخاً سعودياً يقول إن المرأة السعودية هي من ترفض قيادة السيارة.
..
على الجانب المقابل قامت الدولة أيضاً بمصادرة صوت الضحية المسيحية على طريقتها، أولاً كان ظهور أهالي الضحايا من الأصل محدوداً للغاية في الإعلام، امتلأت القنوات باللواءات المتقاعدين، وأيضاً بأهالي شهداء الشرطة، ثم بأهالي المتهمين أنفسهم، بينما كان بإمكانك أن تعثر بصعوبة بالغة على حديث أهالي أحد الضحايا. إذا كان من المحتمل أن يقولوا ما لا يرضينا، فمن الأفضل أن يختفوا أصلاً.
ثانياً مورست مراراً لعبة التخويف من الأسوأ، من الأفضل أن تصمت، وتحمد الله أن كنيستك لست في سوريا أو العراق، لولا الجيش المصري لحكمتك داعش. لولا الجيش المصري لكنتم جميعاً أمواتاً أو مشردين وكل كنائسكم محروقة.
ثالثاً الأكثر وقاحة هنا كان أن المتحدثين المصروفين للفضائيات بدورهم تحدثوا باسم الأقباط: “الأقباط العاقلين” يعرفون أنه لا تقصير أمني من الداخلية – الأقباط يعرفون أن الهجوم لا يستهدفهم بل يستهدف مصر كلها – الأقباط يقدرون ظروف البلد ولن يطالبوا بمطالب خاصة (تلميح لمشاكل بناء الكنائس) – كل الأقباط خلف القيادة السياسية.
الدولة بدورها تملك نموذجها للأقباط العاقلين، وهم لا يعترضون ولا يحتجون لا لمطالب عامة أو خاصة، لأنهم رعايا يتلقون الإحسان لا مواطنون أصحاب حقوق. والأقباط العاقلين يستخدمون مصطلحات مخففة مثل “عندنا مشاكل” لكن يستحيل أن يستخدموا كلمات مثل “اضطهاد ديني” أو “تمييز ممنهج”.
والدولة أيضأً صادرت أصوات آخرين مثل النوبة والبدو أو الفقراء أو الصعيد، ومن زاوية أخرى تشمل الأصوات المُصادرة كل ذوي التوجهات السياسية المعارضة من الإسلاميين إلى “شباب الثورة”، كلها فئات مهمشة هناك من يظهر في الإعلام بالنيابة عنها، أو يظهر “عاقل” منهم ليتكلم وحده. احتفى إعلاميون بمن يقدموه وحده إخوانياً تائباً عائداً إلى حب السيسي، أو بشاب يدعي انتماؤه لحركة 6 أبريل سابقاً. لن تشهد أبداً مناظرة بين نوبي يؤيد حق العودة ونوبي يرفضه، فقط “النوبي العاقل” هو المسموح له بالظهور.
..
كل هذه الحيل تُمارس من أجل الهرب من رؤية الواقع الحقيقي، وبالتالي الهرب مما يستتبعه من مواجهة المسؤوليات: مسؤولية الإسلاميين في مراجعة الخطاب الديني السائد، ومسؤولية الدولة عن حماية الأقباط، وعن المساواه والمواطنة والعدالة لجميع المواطنين بلا استثناء.
لكن تكرار الكذبة يضر من أطلقها، لأنه يصدقها في النهاية، ويتصرف على أساسها ليصل لنتائج فاشلة ومشوهة.
حل الأزمات لا يتم بالهروب منها وتأجيلها إلى مستقبل مجهول. الواقع لن يتغير بخداع النفس قبل الغير. فلنسمع أصوات الضحايا، كل الضحايا…
…………….
https://www.facebook.com/mohamed.aboelgheit/posts/10155208613508674
رابط المقال من العربي الجديد:
http://bit.ly/2oufHQc