كلمة “الاختلاط” في مجـال العلاقة بين الرجـل والمرأة بدلالتها المعاصرة (التي تريد تقسيم الكرة الأرضية إلى قسمين أحدهما للرجال والآخر للنساء) هي كلمة دخيلة على القاموس الإسلامي، ولا وجود لهذه الكلمة في القرآن ولا في السنة ولا في التراث الفقهي طوال القرون الأولى بالدلالة المستخدمة حاليا بمعنى القطع التام لكل تعامل بين رجل وامرأة.
الموضع الوحيد الذي جاء فيه لفظ الاختلاط هو حديث أبي داود أنه عند الخروج من المسجد اختلط الرجال مع النساء في الطريق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالتأخر إلى حافة الطريق.
والاختلاط المقصود في الحديث قد أجمع جمهور أهل العلم أن المقصود به اختلاط التلامس والمجانسة (الذي يؤدي للاحتكاك الجسدي)؛ وهذا لا شك في حرمته!
أما الاختلاط بمعنى منع كل تواصل في المعاملات اليومية بين الجنسين حتى مجرد الكلام، فمفهوم لم يظهر إلا في العصر الحديث وروجت له بعض المدارس الفكرية التي وجدته مفهوم موافق لهواها، ومع مرور الوقت وتركيز عدد من الدعاة على هذه القضية كونها إحدى المعارك الآمنة التي لا تستجلب غضب الحكومات ولا سخط الحكام؛ حتى أصبحت قضية الاختلاط لدى بعض الشباب والبنات كأنها من أصول الدين؛ حتى يقول قائل – جهلًا – إن كل اختلاط بين رجل وامرأة هو من أكبر الذنوب!
بينما المتأمل في القرآن الكريم وحديثه عن المرأة في مختلف العصور، وفي حياة الرسل والأنبياء لا يشعر بهذا الستار الحديدي الذي وضعه بعضهم بين الرجل والمرأة باسم الدين.
فقد أخبرنا القرآن أن موسى عليه السلام وهو في ريعان شبابه وقوته وقف يحادث الفتاتين ابنتي الشيخ الكبير، ويسألهما وتجيبانه بلا تأثم ولا حرج، ويعاونهما في شهامة ومروءة، وتأتيه إحداهما بعد ذلك مرسلة من أبيها تدعوه أن يذهب معها إلى والدها، ثم تقترح إحداهما على أبيها بعد ذلك أن يستخدمه عنده؛ لما لمست فيه من قوة وأمانة … وفي قصة مريم نجد زكريا يدخل عليها المحراب، ويسألها عن الرزق الذي يجده عندها … وفي قصة ملكة سبأ نجد حوارها مع سليمان.
فكل هذه المواقف كانت تجمع بين رجال ونساء؛ ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن شرع من قبلنا المذكور في القرآن والسنة هو شرع لنا ما لم يرد في شرعـنا ما يرده؛ ولم يرد في شرعنا ما يرد ذلك بل بالعكس كانت المرأة تشهد صلاة الجماعة والجمعة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلف الرجال بدون فاصل ولا ساتر، وكان عليه الصلاة والسلام يحثهن على أن يتخذن مكانهن في الصفوف الأخيرة خلف صفوف الرجال، وكلما كان الصف أقرب إلى المؤخرة كان أفضل، خشية أن يظهر من عورات الرجال شيء فتطلع عليه النساء خصوصا أن أكثر الرجال في ذلك الزمن كانوا لا يعرفون السراويل، ولم يكن بين الرجال والنساء أي حائل من بناء أو خشب أو نسيج، أو غيره.
وكان النساء يحضرن دروس العلم، مع الرجال عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسألن عن أمور دينهن مما قد لا تسأل عنه كثير من النساء اليوم. حتى أثنت عائشة على نساء الأنصار، أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، فطالما سألن عن الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض ونحوها.
وكثير من الأحاديث النبوية تروي لنا مواقف حدثت بين رجال ونساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم؛ بل تجاوز هذا النشاط النسائي ساحات العلم والعبادة إلى المشاركة في المعارك، بما يقدرن عليه ويُحسنَّ القيام به، من التمريض والإسعاف ورعاية الجرحـى والمصابين، بجوار الخدمات الأخـرى من الطهي والسقي ونحوها.
بل صح أن نساء الصحابة شاركن في بعض الغزوات والمعارك بحمل السيف، ومعروف ما قامت به أم عمارة نسيبة بنت كعب يوم أحد، حتى قال عنها -صلى الله عليه وسلم- : “لمقامها خير من مقام فلان وفلان”. وكذلك اتخذت أم سليم خنجرًا تقاتل يوم حنين.
ولم يقف طموح المرأة المسلمة في عهد النبوة والصحابة للمشاركة في المعارك المجاورة والقريبـة في الأرض العربية، بل طمحن إلى ركـوب البحـار، والإسهام فيما هو أبعد، كأم حرام بنت ملحان التي ركبت البحر مع زوجها عبادة بن الصامت إلى جزيرة قبرص، وبها توفيت ودفنت رضي الله عنها.
وفي الحياة الاجتماعية شاركت المرأة داعية إلى الخير، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، ومن الوقائع المشهورة رد إحدى المسلمات على عمر في المسجد، ورجوعه إلى رأيها علنًا، وقوله: “أصابت المرأة وأخطأ عمر”.، كما عين عمر في خـلافته الشِّفاء بنت عبد الله العدوية مشرفة على السوق وكان هذا العمل بلا شك يتطلب منها أن تخالط الرجال.
فإن قال قائل: هؤلاء كانوا أنبياء وصحابة فأين نحن منهم! قلنا: إنه من المعلوم أن أفعال الأنبياء ومن بعدهم الصحابة جعلت لنقتدي بهم في التشريعات والتعاملات (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، فلسنا بأخوف من الله منهم لنشدد على أنفسنا في ديننا ما لم يشددوه.
فالخلاصة أن اللقاء والتواصل بين الرجال والنساء في ذاته ليس محرمًا بل هو جائز إذا كان القصـد منه المشاركـة في هدف نبيل، من علـم نافع أو عمل صالـح، أو غير ذلك، إنما المحرم الخروج عن القواعد الشرعية عند اللقاء كالتلامس والاحتكاك وعدم ارتداء الحجاب أو النظر إلى العورات، أو التواصل لغير حاجة أو الخضوع بالقول إلى آخر ذلك. وهذه أمور يختلف فيها الناس التزامًا أو تساهلًا فلا يمكن إطلاق حكم عام بحرمة كل لقاء أو كل تعامل أو كل تواصل بين رجل وامرأة، وإنما الظروف والملابسات هي التي تحدد ذلك.
لا أنكر أبدًا أنه كما يوجد طرف يبالغ في التضييق والتشديد في موضوع الاختلاط يوجد أيضا طرف يبالغ في رفع كل الحدود والقيود باسم الحرية والتحضر، لكن من عظمة الإسلام أنه جاء مراعيًا لواقع الناس وسطا في أحكامه رفيقًا بأتباعه؛ فلم تمنع الشريعة كل تعامل بين رجل وامرأة كما زعم المتشددون ولم ترفع كل الحدود كما فعل المتساهلون، وإنما بنى الشرع العلاقة بين الرجل والمرأة على منطقة وسط أباح فيها التواصل الضروري الذي يحتاجه الناس في أمور معاشهم مع الحفاظ على الضوابط لكن ليس من الشرع في شيء إنكار كل تواصل بين رجل وامرأة، واعتبار أن ذلك من باب التدين والورع.
فإن قال أحدهم: نفعل هذا من باب سد الذرائع والأخذ بالأحوط والابتعاد عن الفتن قلنا: هذا اختيار شخصي متروك لكل إنسان يقرر فيه بإرادته، فمن شاء فليفعل ويتورع ويحتط لدينه ولكنه ليس بحكم شرعي نلزم به الناس ونضيّق عليهم ما وسعه الله عز وجل لهم.
قصدت أن أستغل الفرصة وأتناول قضية الاختلاط بالشرح والتفصيل أما عن البوست المرفق فلست بحاجة لمزيد من الكلام عنه؛ ولصرخة تلك المرأة الحرة؛ أبلغ في شرح العقيدة من مجالس بعض أصحاب اللحى.